من ينقذ جلد طرائد الوهم؟

عندما يكون الخنوع لسلطةٍ مستبدّة أو لمنظومة أفكارٍ مفروضة بقوة التقليد ورمزيته المتسلطة ظاهرة تميّز واقع المجتمع في فترة ما ، يلوذ كثرٌ من الناس بصومعات صمتٍ حجرية ، تحجب شعاع الأمل في العيون ، وتبني أرخبيلاً من جزر العزلة في النفوس المحتجزة . ومن هناك ، تخرج الكلمات شاحبة من أفواهٍ تم تكميمها بعتمة الصمت، ويصير الهمس المرتبك لغةً للتعبير عن عمق ما يواجهه الناس من تعاسة ، وحالات يأس محبطه . في مجتمع رُوّض أفراده وجماعاته ، عبر عهودٍ من الإستبداد والتجهيل، بين رحى الخوف من سلطة قمعٍ لا ترحم ، والخضوع لخرافةٍ تستدعي الرحمة بوهم الوعد ومرتجى الواهم الزائف ، تتشابك الأفكار والمعاني ملتفة على بعضها في غابة عقلٍ مستلب .إن استمرار يوميات الحياة على ذات الإيقاع المضطرب تحت ظلال أشباح الخوف ، والتمسك بذيول أطياف الموتى لفترة طويلة، يحوّل اليأس إلى سيلٍ أسود يُغرق العقول في المتاهة ، ويسلّم النفوس لركامٍ من الخرافات المموّهة بثياب الورع الكاذب ، و ” قدسيّة ” كلامٍ يوهم الناس بقصصٍ ملفّقة .

 

إن وقائع الحياة وتنويعاتها المختلفة،واحتياجات الجماعات البشرية المتجدّدة للبقاء والاستمرار،تنميّ توقها لمعرفة ما يحدث من حولها ، والتوقف بأسئلة الشك عند عمق التمايز بين طبيعة الحياة في هذا المكان أو ذاك ، خصوصاً في عالمٍ صار مفتوحاً على بعضه بالصورة والصوت ، وتجعل تفكيرها أكثر تفاعلاً في التعاطي مع تلك الوقائع والاحتياجات . ولأن المتسلطيّن ، وناقلي فايروسات الخرافة والأوهام ، يعرفون حجم الأضرار التي يتكبدونها من تنامي المعرفة وقوة الشك ، فأنهم لا يتوانون عن ممارسة كل أنواع الترهيب والترغيب ، القوة المفرطة والبراعة في خداع العقول العاجزة .

 

إن تجارب ما سمّي بـ ” الربيع العربي ” فيها الكثير من الدروس البليغة عن طبيعة القوى الكامنة في المجتمعات العربية التي رزحت طويلاً تحت تسّلط أنظمة مستبدّة وفاسدة . وكيف كانت خلايا قوى الخرافة السرطانية تشطر نفسها في جسد تلك المجتمعات عبر مؤسساتها الطوطمية التي اكتسبت ” الشرعية ” كخادمة للدين وممثلة لرموزه المقدسّة في اللاوعي الجمعي ، وكيف استطاعت تلك الأنظمة أن تستثمر نشاطات تلك المؤسسات في ترسيخ صورة الدولة الراعية للأصول والفصول في مجتمعات تم ترويضها بمنظومة مفاهيم متخلفة ، وإرهاقها بنقص الإحتياجات والفقر وسوء المعيشة ، وجعل ذلك قدراً محتوماً لا يمكن الخروج منه إلاّ في عالمٍ آخر من الوهم والسراب . وفي جانب آخر ، ظلت تمارس كل أنواع الضغط النفسي والقمع الأيديولوجي ضد النشاطات الفكرية ذات الطابع المدني والعلماني – يسارية وديمقراطية – وتشوّيه دورها وسمعتها في المجتمع ، وفي أذهان الأفراد المشوّشة بدوامات الحياة التي لا يراد لها أن تتوقف . وهكذا تصبح الدولة راعية لقوى ما قبل الدولة مما يجعل البناء المجتمعي لهذه الدول هشّاً تحت تأثير تلك القوى وثقافتها التي تتعارض مع المبادئ التي تنشّط غرائز الحياة ، وتنمي قواها البشرية القادرة على التفكير الحر ، والفعل المقاوم .

 

إن ما نشهده اليوم من تفكيك عميق وفوضى عارمة في مجتمعات المنطقة ، يعبّر عن طبيعة التعارضات والتناقضات السياسية والثقافية التي تتحكّم في بناءاتها المختّلة التكوين والمسّوسة الجذور . وهنا ، علينا أن لاننسى بأن تدخلات خارجية ، إقليمية ودولية ، كان لها دور مؤثر وخطير في صناعة تلك الإختّلالات السياسية والمجتمعية ضمن لعبة المصالح والنفوذ ، ومارست أدواراً خطيرة في تعميّق تلك الإختلالات المجتمعية ، وجعلها أرضية خصبة للنزاعات الأهلية ، وتوسيع دوائرالعنف المسلّح على مساحة شاسعة في المنطقة. وعملت قوى التدخّل ، بقوة السلاح والمال ، على تصنيع ودعم ساسة تابعين لها ، وغارقين في مستنقعات الفساد . وتم شراء ولاءاتهم ليكونوا متنفذيّن لخدمة مصالح تلك القوى واستراتيجياتها القذرة في مناطق النزاع، وجعلهم مطايا إرادات الدول المتصارعة بعنجهيات الأقوى على ساحات الضعفاء والتابعين الأذلاء . وما نشهده اليوم من استعراضات عسكرية وعمليات مسلحة تقوم بها قوى دولية لترتيب الخارطة الجيو- بوليتيكية للمنطقة على وفق مصالح كبرى ، وتبعيات ذليلة لهذا الطرف الأقليمي أو ذاك ، يُظهر حجم الفراغ الذي تعيشه هذه المنطقة ، وهشاشة قواها الاجتماعية والسياسية المنزوعة الإرادة في مواجهة ما يحدث من حولها . وقد أعطت هذه القوى كل المبررات التي تسمح بشرعنة إستخدام القوة الخارجية يوم سلمّت مفاتيح الكثير من أبواب أوطانها إلى زمر الفساد والإرهاب لتعبث كيفما شاءت بحياة المواطنين ، ورهن مستقبلهم للمجهول ، وجعلت، لعجزها وتحطّم جسور التواصل مع قوى الشعب الحقيقية ، من التدّخل الأجنبي نوعاً من ” الحل ” لتراكم الأزمات في المنطقة ، و ” إنقاذ ” مجتمعاتها من الغرق في وحل الحروب الأهلية ، وتبديد الثروات، وتكشيرة أنياب الفقر التي لا ترحم . وقد تجسّد ذلك بشكل واضح في مظاهر الهجرة الجماعية الأخيرة إلى مدن أوربا التي بدت في بعض أشكالها المريرة كما لو أن هنالك من يفضّل الموت غرقاً بأمواج البحر ، وبين أدغال الغابات ، على العيش في بلدان غادرها الأمن والأمان ، وتقاسم مساحاتها القتلة، وأمراء الحرب ، وحيتان الفساد التي تبتلع الأخضر واليابس ، ولا تخلفّ شيئاً غير الخراب .

 

وفي ظل هذه الأزمات والإختّلالات العميقة التي تتعرض لها البنى السياسية والمجتمعية في المنطقة ، يواجهنا سؤال عن مدى إمكان الخروج من كل هذه المعمعة ومتى يكون ذلك ممكناً في أجواء التدويل والعسكرة الأجنبية المتنامية بشكلٍ غير معقول ؟ أعتقد أن وضع توقيتات محددة أو تقريبة لما ستؤول إليه الأحداث ، ومن هي القوى التي ستكون مؤهلة للتحكّم بمسارات هذه الأحداث سيكون من باب التكهّن والتخيّل لعديدٍ من السيناريوهات المفتقرة لقاعدة معلومات دقيقة وواضحة . ولكن مما لايمكن إهماله في مديات أبعد، من باب التفكير الإنساني المفتوح على فضاءات الحرية والبحث عن عن أشكالٍ أخرى لمرارة هذه الحياة ، هو أن القوى الكامنة في هذه المجتمعات وطبيعة تعاطيها مع الأحداث المقبلة بعد إنكشاف الكثير من مخاطر العيش في ظل الخوف ، وسلطة الأوهام التي ستفقد ، بمرور الكوارث، بعضاً من ذخيرتها الحيّة ، فضلا عن الإستراتيجيات المعلنة والخفيّة للقوى الإقليمية والدولية ومدى تبيان حقيقة نواياها وتقديراتها المعلنة لما سوف يحدث ، سيكون بيئة جديدة لولادات قد تكون مختلفة عما نفكّر به الآن عبر أنماطٍ مسبّقة من التفكير والرؤى، وتكون لها تصوراتها وممارساتها المنسجمة مع طبيعة الحدث ومستجداته .. ويبقى الكل يتطلّع إلى كيف تكون طبيعة القوى التي يمكنها ، حقاً ، تغيير واقع الشعوب المستسلمة لقناعات من سراب لازالت تتحكّم بمصائرها ، وطرائق تفكيرها . كما سيبقى السؤال الأصعب : هل سيكون هنالك وقتٌ لقوىّ حقيقية فاعلة تمكّن هذه الشعوب من إنقاذ جلدها من سياط مروضّيها في ظل عمل صنّاع هذه الفوضى المعولمة، المفتوحة على إحتمالات لا أحد يستطيع قراءتها بزاوية نظر واحدة ؟

 

أقرأ أيضا