الإسلام والروحانية الجامدة

يتشبث الروحانيون الماورائيون بالغيب وتخيلاته المتعددة والمتنوعة وصوره -أنهار العسل الأخروية، الخمر الأخروي، حور العين،…

يتشبث الروحانيون الماورائيون بالغيب وتخيلاته المتعددة والمتنوعة وصوره -أنهار العسل الأخروية، الخمر الأخروي، حور العين، كروم الأعناب، النمارق المصفوفة، الزرابي المبثوثة التي وردت في القرآن وباقي الكتب الدينية؛ وذلك من أجل أن يصلوا لشيء من الروحانية أو ليصلوا لذروة الروحانية كما عند بعض العباد والمتصوفة، وقليل من هؤلاء من استمد جزءا من روحانيته من الطبيعة بأرضها ومناخها ومواردها: المائية والزراعية، والبشرية بتنوعها الأثني والديني والثقافي.

 

أما السلفية الدينية فهي بعيدة بالمطلق عن الطبيعة، وهي تشتغل في إيمانها على المردودات الثوابية والعقابية، وليس في قاموسها الفكري أي تجليات ومعطيات روحانية، سواء كانت طبيعية أو ماورائية حتى؛ لأنها تنظر للروحانية كضرب من ضروب الشرك، فلا: (تأمل، ولا وجد، ولا تقمص صور بهيجة لا لـ”الأنا” ولا لـ”الآخر”).

 

دين السلفيين قائم على افعل ولا تفعل، وجزاؤك عن هذا الفعل أو اللا فعل: حورية واحدة أو سبعين، وقصر في الجنة أو قصور وأنهار.

 

الروحانية اصطلاحا، وفعلا هي أمر منبوذ بالمطلق في القاموس السلفي، والسلفي يستمد إيمانه من بدوية الإسلام الإولى، وهي بدوية كادت أن تُقبر مدى الحياة في زمن الحقبة العباسية المأمونية، لكن سياسة الدولة في زمن المتوكل أعادت لهذه البداوة الحياة من جديد، لنعيشها نحن اليوم ببؤسها وقبحها وسيطرتها شبه التامة على مجمل حياتنا الثقافية والاجتماعية!.

 

وليس لي أن أنسى أو أتناسى هنا ذكر روحانيين كبار شغلوا الحقبة الإسلامية البدوية الأولى، لكن لابد أيضا ألا أتردد من قول: أن هؤلاء الروحانيين لم يستطيعوا أن يحدثوا تحولاتهم الروحانية الكبرى داخل هذه البداوة الإسلامية، ويجعلوا روحانياتهم حالة إسلامية عامة! ومن أبرز روحانيي هذه الحقبة: علي بن أبي طالب، علي بن الحسين زين العابدين، الحسن البصري، ويس القرني.. ولم يكن من هؤلاء إلا الإمام علي من دخلت الطبيعة ببشرها المختلفين وليلها ونهارها وشجرها وهواءها.. في تشكيل روحانيته، ومن وصاياه التي عكستها هذه الروحانية المتماهية مع الطبيعة “المطلقة” بدون لحاظ إسلاميتها من عدمها: (الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، (لا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعا).

 

إن الطبيعة وصورها، بجمالها وقبحها لم تكن يوما مدخلا حقيقيا ومعطىً أساسيا في الروحانية الإسلامية بشكل عام، وإلى يومنا هذا! وهذا ما يكشف لنا أسباب نبذ الطبيعة في حياتنا العربية والإسلامية وعدم احترامها؛ فهي بعيدة كل البعد وبشكل مخيف عن حياتنا الأخلاقية والوجدانية.

 

نعم، هناك القليلون من السابقين -ذكرتهم آنفا- ومن المتأخرين من التفت للطبيعة وأدخلها عنصرا أساسيا في نشاطه الروحاني، والمتأخرين على الغالب من المسلمين الفرس، ومن أبرزهم: الشاعر الصوفي حافظ الشيرازي وملا صدرا، اللذان أبهرتهما الطبيعة في تفجير تجلياتهما الروحانية.

 

وحتى يفهم ما أردت طرحه هنا بشكل واضح أقول: أني أعرف أن الشعر العربي وخصوصا العباسي منه قد تغنى بالطبيعة، لكن هذا التغني لم يجعل الطبيعة عنصرا من العناصر القيمية في حياتنا الإسلامية والعربية، وإنما كان هذا التغني يمتثل لحالته الشاعرية التي تتفجر أمام الطبيعة ومكونات جمالها المتنوعة، وكذلك أعرف أن الفلسفة المجردة قد فصّلت عناصر الطبيعة ومدخلياتها في تشكل الأكوان والأفلاك.. وأعرف أيضا أن علم الاجتماع السياسي عند ابن خلدون قد جعل الطبيعة عنصرا أوليا في تطور الحضارات وبناء مدنية الإنسان.

 

إن موضوعي ينصب بالأساس على الإلهام الجمعي الذي تعيشه الأمم اتجاه الأشياء واتجاه بعضها البعض، أو بمعنى آخر أتحدث عن الإلهام الذي يتأتى من الروحانيات الجامعة في حياة أي أمة من الأمم ليجعلها مستقرة حتى وإنْ تنوعت بأديانها وثقافاتها، ولهذا، لا بد لنا أن نبحث عن عناصر تكون قادرة في تحويلنا: من أمة بائسة مشرذمة -تنظر للأنا كـ كائن أوحد و وحيد في السير نحو الله أو المطلق- إلى أمة فاعلة في ذاتها وفي الآخر. وعلى هذا الأساس أستطيع أن أزعم وبإصرار أن حب الطبيعة وتأملها واحترامها بما تحتها وبما عليها من (شجر وبشر وأنهار وحيوانات..)، سيجعلنا نعيش أبهى حالات الوجد الروحاني، والسير نحو المطلق بطمأنينة واستقرار، وإن اختلفنا بأدياننا وأعراقنا، وسواء صلينا أم لم نصلِّ.

 

إقرأ أيضا