العودة إلى فوزي ومراعيه

لا أديب عراقياً، يُجاري الشاعر والناقد والناثر الشهير فوزي كريم، في فن ملاحقة كوابيسنا، أو كوابيسه الخاصة، في أدق تفاصيلها. وهو يفعل ذلك عبر عملية استدراج هادئة، لا تثير أدنى ريبة لدى القارئ حول نواياها- نهاياتها السود والمسدودة، والتي تجد نفسك أسير حبائلها المتينة، والمعدة لك، بإحكام لا رحمة فيه.

 

يُشعرك فوزي شعور من يسير الى جانبك في شارع مضاء، وأنتما تتبادلان حديثاً ودياً، وطبيعياً، تخترقه، بين الفينة والفينة، كنُذر النبوءات، مرور سيارة سوداء مضللة النوافذ!، أو منظر قطة مهروسة على إسفلت الطريق، أو نعيق غراب عابر!، أما الخطى، والحديث “الودي!” الذي يرافقها،- مرافقة الايقاع، الذي تتغير فيه نبرة الصوت، وتغلظ، رويداً.. رويداً، بتغير أشياء المكان، وتبدل ألوانها غير الملحوظ، من ألوانها الأصلية الاولى، إلى سواد وبياض، ينفصلان في موضع، ويتداخلان، تداخل الدمع والدم، في آخر- فهما سائران إلى عالم آخر، غريبٍ كل الغرابة، هو عبارة عن فم مفتوح، مائل، متشنج، شائه، دامٍ، هو فمك” أخي القارئ”، أو فم الكاتب ذاته!.

 

لدى صاحب “العودة إلى كاردينيا”، و”مراعي الصَبار”، وهي آخر ما تفتقت عنه قريحته الفريدة من نوعها، ذلك الوسواس في تأثيث كوابيسه بتفاصيل المكان الذي وقعت حوادثها فيه. كوابيس من منشأ شهير يعود بأصوله إلى كاتب ممسوس آخر هو العملاق الروسي “دستويفسكي”؛ وذا لان ما تعجز عن تصديقه الإفهام، لفرط غرابته وغرائبيته، يُصبح قابلاً للتصديق، إن تمكنت من تجذيره في المكان عبر ذكر تفاصيله بحياديتها الخداعة. ولقد استعان فوزي على إنجاز ذلك، بعُدةٍ مدهشة أمدته بها مواهبه الثرة، فالرجل رسام، وشاعر، وناقد، وناثر كبير، وهو، إلى ذلك، مولعٌ، الولع كله، بفن الموسيقا في أشد نماذجها الكلاسيكية رفعةً وتعقيداً.

 

كم كان العزيز فوزي كريم محقاً في رفضه لعبادة أبناء جيله لأحزابهم التقدمية، وانتماءاتهم الفنية الموغلة في تنظيرها للحداثة، ولما بعدها!؛ فقد شم الرجل في الكلام المنمق، والمنقول، نقلاً سريعاً، غير مدروس، وعبر ترجمات رديئة، عن لغات العالم المتقدم، روائح (الشعواط) المنبعث من جُثث أبناء آدم.. شمها في سيارة سوداء مضللة النوافذ، وفي كأس الخمرة المترع في آخرة الليل بالدمع، بُعيد انتهاء الحديث الصاخب عن الحداثة والحزب، وفي عمود اللغة الفقري المكسور، بحماسة، أو بسعادة، في نصوص الثورة، التي أصبحت جبهة، ثم انقلبت إلى(جبحةٍ)، أكلت، بشدقي ضبع، الجبهةَ والجبهويين.

 

أقرأ أيضا