دبلوماسية الجعفري الى أين؟

يقول المختصون ان الدبلوماسية هي الطريقة المثلى والصيغة الأكثر عقلانية وعملية للتعامل في مختلف الأوقات وفي أكثر المجالات، بما في ذلك إدارة أي حوار أو تفاوض بين أشخاص منفردين أو مجاميع أو بين شعوب.

 

وهي من حيث المبدأ تشكل تراكما معرفياً وخبرة إنسانية كبيرة جداً في العلاقات بين الدول من خلال أصحاب الحكمة والعقول الراجحة من بني البشر تصل إلى مئات السنين قبل الميلاد. وغالباً ما يجري الحديث عن الدبلوماسية التقليدية باعتبارها الصيغة الأنجع لإدارة العلاقات الدولية من خلال هيئات دبلوماسية ودبلوماسيين أكفاء.

 

والدبلوماسية كما يعرّفها الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان على أنها مهنة الاتصال بين الحكومات يعرفها هارولد نيكلسون على أنها عملية إدارة وتنظيم العلاقات الدولية بواسطة المفاوضات. كما تعرف الدبلوماسية على أنها فن التفاوض أو فن الممكن وهي إحدى أهم الوسائل الأساسية لتحقيق مصالح الدولة الخارجية بالوسائل السلمية وهي تتضمن مقداراً ضرورياَ من التكافؤ في الصفات التمثيلية واحترام رغبات الأطراف المتفاوضة في الدفاع المشروع عن مصالح بلادها في جو يسوده الاحترام والتقدير المتبادل.

 

فالدبلوماسية إذن هي ليست مهنة فحسب بل هي فن ومن ثم لابد من مرور فترة زمنية معينة لأي دبلوماسي لاتقان هذه المهنة وإجادة هذا الفن الرفيع من اجل العمل على تنفيذ البرنامج الذي ترسمه الحكومة في مجال السياسة الخارجية. وعند الحديث عن الواقع العملي للدبلوماسية العراقية، فان حاله حال مجالات العمل في وزارات ومؤسسات الدولة الاخرى التي لم تسلم من نظام المحاصصة الحزبية والطائفية الذي همش العناصر المستقلة التي تتمتع بالكفاءة والمهنية والاخلاص، وجاء بالعناصر التي رشحتها الكتل والاحزاب السياسية والتي معظمها دخيل على السلك الدبلوماسي وليس له صلة لا من قريب ولا من بعيد بالعمل الدبلوماسي. ولذلك عندما تستعرض الانجازات التي حققتها دبلوماسية العهد الجديد ستجدها لاتتناسب وحجم المشاكل التي واجهها العراق والتي تطلبت تحركا دبلوماسيا نشطا، بسبب الموقف السلبي للدول العربية وبعض الدول الاخرى من النظام السياسي الجديد، وتجاهلها للتحول نحن نظام ديمقراطي على انقاض نظام ديكتاتوري اضر بالعراق وبالمنطقة كثيرا. ولم تكتف بعض الانظمة العربية بتجاهل مايجري في العراق، بل قامت اجهزتها الاستخبارية بتمويل وتدريب العناصر المعارضة للنظام الجديد وارسالها للعراق للقيام بعمليات تخريب وتفجير لدوائر الدولة المختلفة واستهداف الكافاءات بمختلف الاختصاصات ثم تبعتها المجموعات الارهابية التي تدخل عن طريق الاردن وسوريا لتقوم بالتفجيرات الانتحارية التي استهدفت الاف الابرياء.

 

استمرت الة العنف تطحن بالابرياء وتخرب ممتلكاتهم وتدمر المعالم الثقافية والحضارية للبلد والعالم يتفرج، لان الدبلوماسية لم تقم بما مطلوب لتحريك الرأي العالمي لوضع حد لموجة العنف التي اتت على اليابس والاخضر من خلال كشف مايجري امام المنظمات الدولية المعنية، وتوظيف علاقات العراق مع الدول الكبرى للضغط على الدول الرافضة للتحول الجديد بسبب خوفها من التجربة الديمقراطية، الامر الذي دفعها لمحاولة افشالها بكل وسيلة. ان سبب الفشل الدبلوماسي يعود لعدم وضوح البرنامج الذي تضعه الحكومة في مجال السياسة الخارجية بسبب غياب التنسيق بين رئيس الوزراء ووزير الخارجية وهذا يعود لاختلاف توجهات الكتل التي ينتمون اليها والتي تضع مصلحتها فوق المصلحة العليا للوطن والامر الثاني افتقاد البعثات الدبلوماسسية في الخارج الى الدبلوماسيين المهنيين الذين لديهم براعة الأسلوب والإقناع والحنكة الدبلوماسية لتنفيذ مهام عملهم الامر الذي يؤدي الى عجز الدبلوماسية عن تنفيذ الخطط والبرامج التي من المفترض ان تضعها الحكومة في مجال السياسة الخارجية وتطبيقها بصورة منهجية ويومية عن طريق المفاوضات والمحادثات.

 

في 8 تموز من السنة الماضية تلقيت دعوة لحضور ندوة مغلقة (بعيدا عن الاعلام) اقامها معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى وكان ضيف الندوة مستشار السيد مسعود البرزاني ورئيس مكتب العلاقات الخارجية للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي تحدث عن قضايا متعددة ومنها العلاقة مع بغداد حيث قال في حينها “لن نركع لبغداد ولن نقبل ان تكون بغداد سيدنا، نحن جادون بعملية الانفصال التي ستكون على مراحل ولا رجعة في ذلك”. تحدث الرجل بلغة انكليزية طليقة شدت الحاضرين اليه. ناقش واسترسل في الحديث دون توقف وبدون ان يشعر الاخرين بالملل، كونه خاطبهم بلغتهم بشكل مباشر وبدون وسيط.

 

وفي 5 تشرين الاول تلقيت دعوة مماثلة لكن هذه المرة كان ضيوف الندوة اعضاء وفد وزارة الخارجية الذي جاء لواشنطن والذي كان يضم المتحدث باسم وزارة الخارجية ونائب رئيس معهد الخدمة الخارجية واحد الموظفين بمكتب السيد وزير الخارجية. ادار الندوة الدكتور ديفد بولوك، كبير الباحثين في المعهد. وكان موضوع الندوة يتضمن التحديات الحالية والمستقبلية التي تواجه العراق والعلاقة الستراتيجية مع واشنطن، وسياسة العراق الخارجية ودور وتأثير مراكز البحوث وجماعات الضغط والاعلام في عملية صنع القرار في الشرق الاوسط. كنت مسرورا وانا اترقب حديث اعضاء الوفد، الشباب الذين حضروا لمناقشة المواضيع التي تتطلب حنكة ودراية كاملة بالعمل الدبلوماسي مع نظرائهم الامريكان من دهاقنة السياسة والدبلوماسية. وبعد مقدمة قصيرة قدمها الدكتور ديفد بدأ رئيس الوفد بالحديث، وهنا كانت المفاجأة للمدعوين الذين جاؤوا مثلي لحضور الندوة، لاننا نستمع لرئيس وفد دبلوماسي رفيع المستوى جاء للتعريف بسياسة بلده الخارجية والتحديات التي تواجه وهو لا يتحدث الانكليزية، بل يتحدث باللغة العربية ليقوم مترجم من السفارة العراقية بترجمة حديثه وباقي اعضاء الوفد الاخرين الى الانكليزية.

 

بغض النظر عن فحوى الافكار والرؤى التي طرحها الوفد، الا انه كان من الاجدر طرحها بلغة القوم كي تصلهم بشكل مباشر ودون تأويل. ومن المتعارف عليه ان اعضاء السلك الدبلوماسي في جميع الدول يتحدثون على الاقل لغة واحدة وهي اللغة الانكليزية اضافة للغتهم الاصلية. ان ما يثير الدهشة والاستغراب يبدو ان شرط تحدث اللغة الانكليزية بالنسبة للموظفين الدبلوماسيين الذين يُنَسبون للعمل في الخارج قد أُسقِط في هذه الفترة التي يدير فيها الدكتور الجعفري وزارة الخارجية والسبب الذي دعاني الى استشفاف ذلك ان شخصا موثوقا ومطلعا على مايجري في السفارة العراقية بواشنطن، قال ان الموظفين الدبلوماسيين الذين نسبتهم الوزارة مؤخرا للعمل في السفارة وعددهم ثمانية بينهم موظف بصفة مترجم جميعهم لايتحدثون الانكليزية.

 

وقد طُرِحَ هذا الامر وغيره في لقاء ضمني وبعض المثقفين المهتمين والمتابعين للشأن العراقي بالسيد ريناس جانو، عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي الذي جاء في زيارة لواشنطن، حيث عزا ذلك الامر الى المحاصصة الحزبية التي من الصعب السيطرة عليها، والى حجم المهام الكبيرة والصعوبات التي تواجه لجنة العلاقات ومن بينها عدم تواجد الوزير الجعفري في مقر الوزارة والذي يطلب من اعضاء اللجنة الاجتماع بمكتبه الخاص خارج الوزارة لمناقشة الامور والمشاكل التي تروم اللجنة طرحها عليه الا ان اللجنة ترفض ذلك لانها تعتبر الوزارة هي المكان الرسمي والمناسب للقاء الوزير.

 

نوري سعيد الذي كان يتكلم خمس لغات هي العربية والتركية والانكيزية والالمانية والفرنسية، يتحدث عنه المؤرخ مير بصري في كتابه (اعلام السياسة في العراق)، فيقول كان يدير شؤون رئاسة الوزراء والوزارات التي يتقلدها وكالة، وكأنة قائد عسكري لا سياسي، فينتظر الطاعة التامة ولا يعرف كلمة “لا” جوابا. واذكر انه استدعى مديري الشعب ورؤساء الاقسام حين تولى وزارة الخارجية سنة 1932 بعد دخول العراق عصبة الامم المتحدة، فطلب منا تنفيذ واجبات وظيفتنا بدقة وشعور بالمسؤولية، وقال: اريد عملا جيدا ولا اسمع عذرا ولا اقبل تهاونا. لقد اصبح العراق دولة مستقلة، وان وزارة الخارجية تمثل وجهه الظاهر امام الامم وانتم مظهر هذا الوجه، ارفعوا من شأن البلد الذي اختاركم لهذه المهمة. وكان يصدر اوامره بكلام قليل وعبارات مقتضبة ولا يطيق احتمال المهمل والجاهل. واضاف ميري ان اهتمام نوري سعيد بعد 1930 كان منصبا على الشؤون الخارجية تاركا معالجة الامور الداخلية التفصيلية الى وزراء الداخلية.

 

ارى انه اذا ما اراد السيد رئيس الوزراء، الذي يشرف على ملف السياسة الخارجية للعراق، تحقيق النجاح على المستوى الدولي عليه ان يهتم بكادر السلك الدبلوماسي من خلال ضخ العناصر الكفوءة والمخلصة فيه وهذا لايتم الا بتجاوز عقبة المحاصصة الحزبية، والامر الاخر التركيز على معهد الخدمة الخارجية والاهتمام به، كونه يعتبر المكان الذي يُفلتر ويعد العناصر التي يتم ترشيحها للعمل في السلك الدبلوماسي.

 

ومن بين الامور التي اثارها اكثر من دبلوماسي ان الاختبارات التي يجريها المعهد للمتقدمين هي اختبارات شكلية تفتقد الى الشروط الواجب توفرها في الاختبارات النموذجية ولا ترتقي الى المعايير المتعارف عليها. ناهيك عن تسرب الاسئلة الى المرشحين. لذلك ارى من الضروري ان يعهد بعملية اعداد اسئلة الاختبارات الى لجنة خاصة من اساتذة الجامعات ويتم اجرائها في احدى الكليات وباشراف وزارة التعليم العالي.

 

أقرأ أيضا