تدهشني حقا عبقرية سياسيينا ومشرعينا في ايجاد حلول للأزمة المالية التي نمر بها، فهي تذكرني بقصيدة قديمة قرأتها ذات يوم تقول فيما معناه أن صيادا احول اصطاد طائرا وبدلا من ان يضعه في القفص اطلقه الى الخارج لكن الطائر كان احول ايضا وبدلا من أن يطير دخل القفص.
العبقرية السياسية والاقتصادية التي تفتقت عنها اذهان السياسيين والمشرعين العراقيين لم تضع كل اوزارها إلا فوق كاهل الموظفين والمواطنين المساكين، فهي لم تنتبه الى أن هناك قطاعات هامة في الاقتصاد العراقي غير النفط تم تعطيلها وتدميرها تماما بفضل كتلهم وأحزابهم وسياساتهم الخاطئة طوال 13 عاما من الصراعات والسرقات ونهب ثروات البلاد، وأن العراق الذي دخلوه بعد عام 2003 لم يكن صحراء اخضرت بفضل وجودهم، بل كانت هناك صناعة وزراعة وسياحة وتجارة ومنافذ حدودية كلها اضمحلت بفضل حيتان الاستيراد التي تريد للمواطن العراقي أن يشتري كل شيء من الخارج، من الطماطم حتى الايفون، ومن الفجل والبصل حتى الاسلحة والصواريخ من اجل أن يحصلوا على عمولات بملايين ومليارات الدولارات حولت البلاد الى شعب يستهلك ولا ينتج شيئا على الاطلاق.
الاصلاحات الاقتصادية وإجراءات التقشف التي تنادي بها الحكومة العراقية بعد أن ضربت بـ”بوري” هبوط اسعار النفط والحرب على داعش لم تحسب حساب أن اسعار النفط التي كانت يوما ما اكثر من 100 دولار للبرميل يمكن أن تهبط الى اقل من 30 دولارا اليوم، ولم تتخذ اجراءات اقتصادية لدعم الصناعة أو الزراعة وتنشيط بقية القطاعات من اجل النهوض بالواقع الاقتصادي او حتى ادخار فائض العملة الصعبة من ايام خير صعود الاسعار، بل ذهبت الاموال في جيوب حيتان الفساد والرشاوى والعقود الوهمية والمشاريع الفنطازية التي بلغت كلفها اضعاف اسعارها الحقيقية.
ما لا يدركه الكثير أن الاخطاء التي يلقى بها على عاتق الحكومات السابقة هي نفس اخطاء الحالية لأن الأحزاب والكتل والوجوه في البرلمان هي هي نفسها مع تغيير قليل لا يغني ولا يسمن من جوع، فهل على المواطن الذي لم يستفد شيئا من الحكومات السابقة أن يتحمل الآن ايضا اوزار اخطائها وسرقاتها وما ذنب الموظف والمتقاعد أن يستقطع راتبه لتعويض النقص عن اموال ذهبت في كروش حيتان الفساد التي عشعشت في الدوائر والوزارات ومفاصل الدولة والمحميين بالحصانة من المسائلة والحساب.
يقينا أن الاصلاحات الاقتصادية تتطلب أن يتم اولا تنشيط القطاعات المهملة في الاقتصاد العراقي من صناعة وزراعة وغيرها لتحقيق هدفين، وهما توفير العملة الصعبة وتشغيل الايادي العاطلة التي تتزايد مع اجراءات التقشف الحكومي والإجراء الثاني محاربة حيتان الفساد واستعادة الاموال التي سرقوها ويقينا أن ما سيستعاد، ان حدث، سيغطي ميزانية العراق لعدة اعوام دون الحاجة الى بيع النفط، بدلا عن الركض وراء رواتب المساكين التي لا يملكون بديلا عنها لحياتهم وقوت عيالهم فهل هناك من يسمع او يتعظ او يأخذ بهذه الاراء ؟.