ألـْحَـدَةُ المَدَنيَّة

 

أولاً: لا يسعى هذا المقال إلى الدفاع عن الإلحاد، ولا إلى الدعوة إليه، ولا حتى إلى إيضاح الغموض الذي يكتنفه في العراق، بقدر سعيه إلى تفويت الفرصة على من يحاول أن يخلط بين شريحة “المدنيين”، وبين موقف فكري لا يؤمن به غير قلَّة قليلة من أفراد هذه الشريحة، مع التأكيد على أن الغرض من محاولات الخلط هذه هو تحقيق مكاسب انتخابية آنية أنانية دونية، سبق أن حققها القائمون بالخلط أنفسهم بانتهاج مختلف أساليب الجريمة والفساد وتزوير الانتخابات.

 

ثانياً: المعنى الأكثر شيوعاً للإلحاد هو إنكار وجود الله، وهذا الإنكار قد ينشأ عن موقف معرفي راسخ، أو ينشأ عن عاطفة لا تستند إلى معرفة، والصنف الثاني لا يُعَوّل عليه، فهو ليس إلحاداً بالمعنى الدقيق، بقدر ما هو تقليد أو تأثر عابر ينشأ نتيجة “للإيحاء الجمعي” وكحالة من حالات المعارضة الناتجة عن الظلم أو الاضطهاد الذي يمارسه “المتدينون”. أما الالحاد الناشئ عن موقف معرفي فينقسم أصحابه إلى من يمتلكون أدلة تنفي وجود الله، وإلى من يفتقرون إلى أدلة تُثبت وجوده، ما يعني أنهما لا يرفضان الايمان لمجرد الرفض، بل لأنهما ممنوعان عنه عقلاً ومنطقاً، ومن ثم لا يجوز لأحد التنديد بهما أو إجبارهما على الإيمان، فالمُعْتقد الراسخ عبارة عن مشاعر مبنيَّة على مقدمات معرفيَّة، والمشاعر بعد أن تتشكل لا يمكن تغييرها عبر الإكراه، فأنت لا تستطيع أن تجبر شخصاً على أن يُحبك أو يبغضك مهما الْحَحْت عليه أو عرَّضته لصنوف الإكراه.

 

ثالثاً: الإلحاد الذي يُعبِّر عن موقف معرفي، لا يتبنى موقفاً عدائياً من الدين ولا يقصد الإساءة إليه، غاية ما بالأمر أنه صنف من المعرفة يستند إلى مقدمات ونتائج لا تؤدي إلى الإيمان بوجود الله. أي أن الإلحاد معرفة سَليْمَة النوايا، حالها حال المعرفة التي تؤمن بوجود الله، والمواقف العدائية الموجهة تجاه الأفراد الذين يوصفون بأنهم ملحدون، غير مبرر من قبل أي شخص يتمتع بذوق إنساني وقدرة متوسطة على تفهم ضرورات الاختلاف بالرأي ومبرراته.

 

رابعاً: إن لفظة ملحد تتضمن إساءة “أخلاقية” وتهمة قد تُعرِّض المتهم بها إلى القتل، وهذا ما أكده ميشيل اونفري في كتابه “نفي اللاهوت”، ومن هنا فلا يجوز استخدامها بوصف أي مواطن، كما لا يجوز وصف الإيزيدي مثلاً بالكفر، أو المسيحي بالشرك أو الضلالة، فلفظة ملحد ليست لفظة محايدة، لأن الفرق بينها وبين عبارة “لا يؤمن بالله” أو “لا يؤمن بوجود الله” كالفرق بين عبارة “لقيط” وعبارة “مجهول الأبوين”، فعبارة لقيط تتضمن إساءة أخلاقية تستند على نظرة دونيَّة، بخلاف العبارة الثانية. وهذا ما ينطبق على لفظة ملحد.

 

خامساً: كأن الإسلامي السياسي الذي يشيع بين الناس بأن الشريحة المدنية هي شريحة ملحدة، يريد أن يقول بأن الفرد العراقي إما أن يكون مسلماً أو يكون ملحداً، بمعنى أنه يريد أن يبتلع المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين والدروز، بل وحتى الشيعة والسنة والكرد المستقلين، فالأعم الأغلب من أفراد هذه الشرائح والمكونات مصطفَّة في جبهة معارضة لحكم الإسلام السياسي، وهي تقع في الصميم من “التشكيلة المدنيَّة”، وهؤلاء ليسوا ملحدين، لكنهم معارضون لحكم الإسلام السياسي، وهذا الذي يظهر على صفحات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام من تندر ببعض الظواهر الدينية ونقد لها، إنما يعبر عن محاولة هذه الجبهة للتعبير عن نفسها والتنفيس عن غضبها، ولا يعبر عن موقف إلحادي.

 

الإسلاميون السياسيون يعرفون جيداً بأن المدنيين يرفضونهم لفشلهم، لكنهم يقولون بأنهم يرفضوننا لأننا مسلمون وهم ملحدون، فأي نموذج من الكذبة نواجه في هذا العراق العجيب؟!

 

أقرأ أيضا