العراق على المشرحة

 

إحدى أهم مصائبنا أننا بلينا بطبقة سياسية لا يهمها غير بقائها في السلطة عسى أن يتحقق ذلك على حساب وجود العراق كدولة، وعلى حساب وحدة شعب العراق الذي تحمل بكل أطيافه وقومياته ويلات الدكتاتورية واضطهادها وظلمها، لكن ثمة من الطبقة السياسية الحالية من يلقي باللائمة عما جرى لبعض فئات الشعب على مجموعة مجتمعية بعينها، كما تفعل بعض القوى الكردية التي تتهم “العرب” بقتل الأكراد، متناسية أن المقابر الجماعية لم تميز بين الأكراد والعرب، وأن مدينة كربلاء والنجف دكت أيام الإنتفاضة الشعبانية بالمدفعية والصواريخ وراح ضحية تلك الأيام من هاتين المدينتين فقط ما يقارب (60) الف شهيد، عدا المعوقين والايتام والأرامل، ومنهم من يرى الآخر ندا “طائفيا” فتعامل مع بعض الأطراف السياسية الحزبية باعتبارها أحزابا تمثل تلك الطائفة، وهذا قالب فكري وسياسي وضعت فيه “العملية السياسية” من قبل الأمريكان بعد 2003، نتيجة قصر نظر الحاكم المدني بول بريمر وقصور فهمه لتاريخ العراق السياسي الذي لم تتوافر في قاموس أحزابه في كل تاريخها وعلى اختلاف توجهاتها مصطلحات ذات دلالات طائفية إلا بعد سقوط النظام السابق وتأسيس النظام السياسي العرقي- الطائفي الجديد.

 

وبعد أن قادت الأحزاب السياسية بخطابها الطائفي والقومي الشعب العراقي إلى الاقتتال فيما بين مجموعاته المجتمعية من خلال خطابها العرقي والطائفي، وبثها روح الكراهية بين مجموعاته المختلفة. وبعد أن وفرت البيئة الخصبة لنشوء ونمو التطرف الذي أنتج داعش وأخواتها، تطل علينا نفس الوجوه لتخبرنا إنها بصدد تغيير نهجها وإنها تتبنى مشروعات وطنية عابرة للطائفية والقومية وتريد بناء بلد “المواطنة”، وليس “بلد المكونات”! ما الذي استجد في فكرها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وما الذي استجد في تكوين وطبيعة كياناتها ذات الصبغة الوحيدة ما يجعلنا نصدقها؟ أليست هي نفس تلك الشخصيات التي خاض بعضها انتخابات 2014 بعناوين “عابرة للطائفية” وعادت من جديد لتتحد طائفيا أو قوميا، فكونت التحالف الوطني، واتحاد القوى، والتحالف الكردستاني؟

 

كيف سنصدق –مثلا- السيد عمار الحكيم وهو الراعي والداعم لحزب “فرسان الأمل” الذي يعرض نفسه حزبا مدنيا عابرا للطائفية، وهو يدعو “السنة” لتوحيد صفوفهم والرد على مشروع “المصالحة التاريخية” الذي يروج له؟ وكيف سنصدق أن ايا من الأحزاب والقوى التي تعرض برامج سياسية، مدنية، ووطنية، وعابرة للطائفية، من التي تعقد اجتماعاتها في أنقرة، وجنيف، وبروكسل، وكل المجتمعين فيها من أحزاب وشخصيات من طائفة واحدة؟

 

كيف سنصدق إن السيد رئيس مجلس النواب سيقبل أن يرشح مسيحيا -مثلا- من كيانه السياسي “المدني” الجديد، بعد أن يحصل على الاصوات المطلوبة، ليكون رئيسا لمجلس النواب بدلا عنه بعد الانتخابات القادمة، كما يفترض بالفكر والمنهج “المدني” أن يكون؟ هل يضم ذلك الحزب مسيحيا اصلا؟

 

تصر بعض القوى السياسية على نظرية ترى إنها قد تكون مسوغا لقبول طروحاتها في تدعيم سلطاتها، تتلخص في إن “عراق ما قبل داعش هو غير العراق ما بعد داعش” وهي وصف لحالة يمكن إسثمارها، أكثر منها نظرية قابلة للصمود، إذا ما توافر العراق على طبقة سياسية جديدة جديرة به. فالقوى السياسية التي تعرض نفسها –خلافا للواقع- إنها ممثلة ل”السنة” تسعى نحو إقليم “سني” متجاوبة مع طروحات أمريكية تسعى لخلق بؤر صراع تجعل الحاجة المستمرة لوجود قوات لها على الأرض حاجة ماسة ومستجدة في كل وقت، فيما تريد قوى كردية معروفة، إستغلال حالة الحرب والإحتراب الداخلي التي يمر بها العراق، لإجراء إستفتاء لإنفصال إقليم كردستان، وهذه المرة سيشمل الأراضي التي سيطرت عليها القوات الكردية نتيجة الحرب مع داعش في الموصل وكركوك وديالى وصلاح الدين!

 

أما الأحزاب التي تعرض نفسها-خلافا للواقع-ممثلة ل”الشيعة”، فهي تريد الإستئثار والبقاء بالسلطة وليس في وسعها أن تكون قائدة لبناء “دولة” فبناء الدولة يتطلب رجال لا تشغل السلطة بالهم بقدر ما يشغلهم بناء مؤسسات دستورية كفيلة بضمان العدل والمساواة بين المواطنين ما ينهي إحتمال لجوء أي كان للعنف بديلا عن القانون لضمان حقه سواء بالتمثيل السياسي وشغل المناصب الرسمية او الحصول على حقوقه الدستورية وضمان حريته الشخصية وكرامته من الإنتهاك. فتمنع تلك الأحزاب أية بادرة تهدد وجودها بالسلطة الذي أتاح لبعضها تكوين إمبراطوريات مالية من صفقات فساد جعلت العراق يتربع على المراكز الأولى من بين أفسد البلدان في العالم، وباتت تستخدم سياسة “الترويع” ضد المواطنين المحتجين على فشلها في إدارة ملف الخدمات، وفي الوقت الذي تدعو فيه الأطراف الأخرى لـ”تجاوز أخطاء الماضي” تراها عاجزة تماما عن أن تخرج من عباءتها الطائفية مهما حاولت أو أظهرت من محاولات، لأن من أسس للفوضى وكان جزءا منها لا يمكن أن يؤسس لنظام.

 

ما يطرح حاليا من كل الأطراف، هو عملية تشريح جديدة للعراق، على وفق ما أفرزته القوة على الأرض، لإعادة تقسيم السلطة والمال فيما بين نفس الطبقة السياسية، بمسميات وواجهات وشعارات جديدة، مثل “المدنية” و”المواطنة” و”المصالحة التاريخية”.

أقرأ أيضا