مدار السرطان أم داء السرطان

  تطل علينا بين الفينة والاخرى آخر الاخبار العلمية- التكنولوجية من ثورة الروبوت الى اكتشافات…

 

تطل علينا بين الفينة والاخرى آخر الاخبار العلمية- التكنولوجية من ثورة الروبوت الى اكتشافات الفضاء، حيث تتنافس الجامعات في العالم على تسجيل بصمتها لإبداع جديد, وتحفظ لها حقوقها الفكرية. ومؤشر جودة التعليم يخبرنا أن دول ما بعد الصناعية مازالت تتصدر المشهد العلمي، إلا ان هذا التقدم أو التطور لم يجد له نظيراً في العلوم الاجتماعية, فما زالت النظرة المركزية اتجاه دول الاطراف نفسها كما في القرن الثامن والتاسع عشر.

 

إن الثورات العلمية الحديثة لم تجعل الانسان أكثر إنسانية بقدر ما جعلته أكثر سلعية؛ وذلك لان الجانب المادي هو “معيار التحضر” على حساب الجانب المعنوي الاخلاقي.

 

ما زال “الاخر” في نظر “أنا” الغرب هامشيا. رغم مرور أكثر من مائتي عام على حقوق الانسان!

 

نحن في زمن المدنيات والمدن المليونية, حيث يخبرنا البنك الدولي “أن في العام 2030 سيعيش ثلثا سكان العالم في المدن”, ولهذا التمدن ضريبة على قيم الانسان المعنوية, في ظل زيادة السكان ومحدودية الموارد. إنه يبلغنا انتصار ابن المدينة على ابن الريف. انتصار الحديد والحجر والعوادم على التربة والخشب والخضراء. وهو يحاول عبثا الحفاظ على البيئة. بعد أن استبد بكوكب الأرض الاحتباس الحراري, وتوسع فجوة الأوزون الذي لم يعن شيئاً للرئيس الاميركي (ترامب) حينما سحب التزام بلاده باتفاقية باريس للمناخ قبل مدة .

 

ببساطة أقول ان التمدن لا يعني التحضر. فالأخير له متطلبات أوسع تبقينا على قيد الانسانية، ولكن ما هو أشد خطراً من ذلك أن يركض أبناء الجنوب الزراعي مقلدين أبناء الشمال الصناعي, فإن تحول البلدان الزراعية او النامية الى صناعية ولو بدرجات لا يجعل منها انسانية كحال مثيلاتها في الغرب. اخذين بنظر الاعتبار التصنيع الذي يقف عند حدود معينة لأجل منافع مجتمعية.

 

وما (العولمة) في محتواها إلا قيم مادية “رأسمالية” تحاول أن توحد العالم بطريقتها, وتغلي التعددية الثقافية لصالح القوى المنتجة لها.

 

فهل سيبقى أهل الحل والعقد من صفوة الناس وخيارهم, وكبار المثقفين عاجزين على تعديل هذا المسار المعوج!؟

 

لقد أخبرتنا الاعوام الماضية أن كثيرين من أمثال هؤلاء أرادوا تقديم بدائل ناضجة كمقولات: التسامح الديني, والسلام العالمي, والتواصل الحضاري..الخ, إلا أن تأثيرها مازال ضعيفا. وتحتاج الى جهد مجتمعي شعبي أكثر منه حكومي رسمي.

 

وإن كان الامر كذلك فهل يتم التثقيف الشعبي على الاسس التي أوصلت عدداً من الحكومات الى التصادم مع جيرانها و/أو العالم؟ والاجابة البديهية تقول: كلا.

 

ولكن لهذه الاجابة متطلبات عملية, فمثلا المجتمع عليه أن يقف بوجه حكومته في استيرادها للسلاح وقت السلم؛ لانها في الغالب مقدمة للحرب. مطالباً اياها بزيادة ميزانية التربية والتعليم العالي بدلا من ذلك. وهو- أي المجتمع – مسئول عبر التواصل الاجتماعي تجسير العلاقات بين ابناء وطنه, فضلا عن ابناء جاره من دول الاقليم. وهذا بالأخص يقع على عاتق الشباب, كي لا تصادر حرياتهم وتتم تعبئتهم الى ساحات المعارك, ثم تذهب بمستقبلهم ومستقبل ابنائهم.

 

إن المشكلات متجذرة في ذاكرة الآباء وهي تحدد للأبناء ما يجب فعله لحاضرهم دون النظر الى صواب أو خطأ رؤيتهم. وإن بقي الحال كذلك من غير فحص أو تمحيص فسوف يكرر التأريخ فعله في الحاضر. ويستمر مسلسل الحلقة المفرغة.

 

الشاب العربي و/أو المسلم صار اليوم على مفترق طرق جديد, ولابد ان يتحمل مسئولياته, فالهرب من المشكلات, أو الجري في المسار الاعوج تماشياً مع التيار ليس حلا. نراه إما رافضاً صلف, أو خانعاً تافه. وهو بذلك يضيع مع تلاطم الأزمات, كالزبد يذهب جفاء. يقصر نظره الى اميركا وأوربا في تاريخهم الاستعماري والتنصيري, متجاهلا مخرجاتهم العلمية والمؤسساتية كافة. وينسب كل فشل في موقعه اليهم.

 

في الوقت الذي لم يقدم لنفسه او مجتمعه شيئاً يرتقي بهم. ولا يختلف الحال الى ذلك السارح في أوهام وردية لم يجدها عندهم حين هاجر اليهم. الشاب الاميركي او الاوربي مثلا مازال ينظر الى العربي و/أو المسلم بصورة نمطية, فهو بنظره امتداد للصحراء أو ثروةٌ نفطية. وإن عرف عنه أكثر فلن يكون أكثر من “ألف ليلة وليلة” أو الارهاب الذي تم الصاقه به عبر وسائل إعلامهم, حتى وصل “الاسلام فوبيا” عندهم ملازما للقنبلة النووية.

 

وليس الشاب الافريقي ببعيد, فقد ظل يحلم لسنين طويلة بحياة أفضل, ولقرنين خلت كانوا يأتونه الى عقر داره ويشحنوه كرهاً الى ديارهم للسخرة. أما اليوم وقد تحرر من رق العبودية يذهب طوعاً اليهم عبر البحار, وغالبا ما تنتهي به المغامرة في بطون الاسماك.

 

فكرة المواطنة الكونية تكون أكثر فضاضة اليوم, ونحن نشاهد هذه التناقضات الهزلية !. من قال أن المهاجرين جاءوا ترفاً او نزهةً ؟ وهنا أخص منهم شباب الشرق الاوسط, الذين يسارعون بتعلم اللغة الانكليزية- لغة العلم والعمل- إلا انها وياللاسف لم تكن أداة للتواصل ! فلم يتعلموا هم اللغة العربية مثلا من أجل تلاقح ثقافي بناء.

 

الفقر, والبطالة, الى انحدار المستوى التعليمي, الى عدم تكافؤ الفرص ليست فقط في بلدان يعمها ” التخلف” وإنما كذلك في دول تم الاصطلاح عليها على أنها تمثل ” التقدم”, نتج عن ذلك صعوبة اندماج المهاجرين في الدول المضيفة, كما هي صعوبة كبح جماح اليمين الاخذ في الصعود. والذي رأى أن هؤلاء لم يتقاسموا معهم المأكل والمسكن فحسب, وإنما فوق ذلك يرغمون تقاسم قيم لم يعهدوها في حياتهم. ليتم رفضهم والمطالبة بترحيلهم.

 

أخيرا هل استطاعت المنجزات العلمية-التكنولوجية ايجاد حلول لهذه الاشكاليات الحضارية؟

 

أم أن مخرجاتها ستوظف مجدداً في اختراع سلاح ذكي جديد للقضاء على العدو المفترض الذي يتم صناعته خلف كواليس قادة السياسة والاقتصاد والحرب!؟.

إقرأ أيضا