في كل بلاد الدنيا يوجد أثرياء، وكذلك في العراق، سوى أن وتائر تراكم الثروات فيه ربما كانت الأعلى من أي مكان في العالم. خلال عشر سنوات فقط تكدست في أيدي بعض العراقيين ثروات هائلة في حجمها وتنوعها وانتشارها الجغرافي من أموال وعقارات واستثمارات داخلية وخارجية، ومثل هذا الحجم من الثروة لا يتراكم في العادة إلا عبر سنوات طويلة من العمل والجهد والتخطيط، وقد تتوارثه الأسر جيلا بعد جيل.
نحن نعرف أثرياءنا تمام المعرفة وبالأسماء، ونعرف أنهم كانوا قبل 2003 يعيشون على إعانات دول اللجوء ويتحايلون على الدول التي آوتهم بحجج كاذبة كي تمنحهم المزيد. لم تكن لهم علاقة قط بدنيا المال والأعمال، وما زالت صورهم على اليوتيوب وهم يرتدون الدشاديش البسيطة ويتناولون طعامهم على الأرض ويمارسون ابسط المهن. دخلوا العراق صفر اليدين تماما، لكنهم ما إن جرى نهر النفط في أيديهم حتى بدأت الجيوب بالانتفاخ تلتها حسابات البنوك ثم الاستثمار بشراهة لا تليق إلا بمحدث النعمة الذي ارتقى سلم الثروة وثبا حتى درجاته العليا دون أن يرف له جفن وهو يرى معاناة ملايين البشر من حوله.
لا يمكن للثروات أن تتراكم على هذه الشاكلة، إلا في ظل مناخ فساد شامل تغذيه ثروة نفطية تتدفق بلا توقف تحرسها أيدي اللصوص. وللفساد مفاتيح اكتشفها القوم بالممارسة التدريجية، وأحد أهم هذه المفاتيح هو إبرام عقود الإعمار في بلاد خربتها الحروب على امتداد ثلاثين عاما، وتحتاج إلى إعادة بناء كل مرفق فيها بلا استثناء. ولا يقتصر الأمر على تقاضي العمولة المجزية، فلقد كان هذا بابا آخر للنهب يدر عليهم أضعاف العمولات التي كانوا يتقاضونها وهو تكوين شركات وهمية تحال إليها العقود، وبذلك يتم الاستيلاء على العمولة والربح معا. وأخذنا نسمع عن توقيع عقود مع شركات تركية أو إيرانية أو أية جنسية أخرى عجزت عن تنفيذ التزاماتها لنكتشف بعد حين أن مالكها هو العراقي فلان ابن فلان ومعه شريك بائس من أبناء البلد ليقوم بدور الواجهة. ولما كانت هذه الشركات وهمية في الأصل، فلن تجد مشاريع تنفذ ولن تجد أحدا يحاسب، فتبادل المصالح كفيل بغلق أي ملف.
وفي كل بلاد الدنيا تتكون طبقة الأثرياء من كبار الصناعيين والمستثمرين ورجال الأعمال، لكن كبار الأثرياء العراقيين هم من السياسيين، رؤساء كتل وأذنابها وأعضاء برلمان ووزراء وأعضاء مجالس محافظات ورجال دين يمارسون السياسة. وفي كل بلاد الدنيا أيضا، دأب أصحاب الثروات على تخصيص جزء صغير من ثرواتهم لمشاريع اجتماعية كبناء المستشفيات والمدارس ورعاية البحث العلمي في الجامعات وغيرها كثير، وفي هذا بعض رد الجميل للمجتمع الذي أتاح لهم هذه الثروة، وعربون حسن نية كي يتقبل الآخرون ثرواتهم الفاحشة. إلا أن أثرياء الوطن، إضافة إلى طفيليتهم وانعدام إنتاجهم، لم يبنوا مدرسة واحدة ولا مستشفى ولا دارا للأيتام ولم يفكروا أصلا في استرضاء المجتمع الذي يعيشون فيه.
لعلهم لا ينوون البقاء بيننا طويلا.