صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

أثر الأزمة في ثقافة سوريا وتراثها

بعد أن انتهى الكثيرون في شأن سوريا إلى التسليم بأن مصيرها إلى التفتت والانقسام, نجد أن فكرة لم الشمل لا تزال بحاجة إلى إعادة تأسيس في الوعي السوري اليوم أكثر من أي وقت مضى، فالثقافة والمؤسسات الثقافية لم تتعرض في عصر من عصورها إلى ما تتعرّض إليه اليوم سورية من أخطار كبيرة، فقد تكالبت عليها قوى الشر ونهشتها من كل جانب، إلى الدرجة التي أصبحت فيه هذه الثقافة مجرد هيكل خال من القيم وغائبة عن الوعي والفاعلية والتّأثير، فالذي نراه اليوم من تردّي وشرذمة على صعيد أوضاع سورية وما نشاهده من حروب داخلية ومجازر هو في واقع الأمر نتيجة من نتائج هذا الغياب المدوي للدور الذي كان من الممكن أن تقوم به هذه الثقافة.

 

في ظل الأزمة الوطنية الشاملة التي تشهدها سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات من حيث الاقتتال والعنف وبروز الفكر المتطرف أصبحت الهجرة أضعافاً مضاعفة، بالإضافة إلى النهب والتخريب المتعمد للجامعات والمعاهد والمدارس، وخلت معظم المدن والبلدات والقرى في مناطق التوتر من الكوادر الطبية والعلمية والتعليمية التي هاجرت إلى المدن والمناطق الآمنة وشبه الآمنة وهذا أدى إلى كوارث بانتشار الأمية وحرمان مئات الآلاف من التلاميذ والطلاب من الدراسة، كما دفعت الأوضاع المعاشية الكوادر التي هاجرت إلى المدن للهجرة إلى خارج الوطن بحثاً عن لقمة العيش وبات ذلك يهدد بخسارة الوطن من غالبية كوادره الوطنية، فالحرب لم تعد حرباً على سورية الوطن فقط، بل تحولت إلى حرباً للنيل من تاريخها وعراقتها وسلب إرثها الحضاري والثقافي وهو أغلى ما تملك، فضلاً عن وجود حملات مسعورة تشوه تاريخنا العظيم، هذا ما سيحرم الأجيال القادمة من معرفة الجانب المشرق من تاريخهم وجذورهم.

 

ففي ظل التقدم العلمي الهائل الذي وصلت إليه سورية، وانتشار التعليم على نطاق واسع، وازدهار حركة النشر والترجمة، فإنّنا لا نكاد نجد أثراً لهذه الثقافة في صيرورة الأحداث، على العكس من ذلك فإنّنا نجد هناك نتائج مخيّبة للآمال تتمثل في بروز عدد كبير من الظواهر السّلبية التي لم تكن موجودة في الماضي، فالصّراعات المحتدمة في سوريا لم تكن لتحدث بمعزل عن ردّة فعل نخرت أساس الثقافة والمؤسسات الثقافية وشوّهت جوهرها.

 

فمنذ بداية الأزمة طغت ظاهرة غريبة على المجتمع السوري كغيرها من الظواهر الوافدة علينا من خلال سياسة العنف والاقتتال تتلخص بالاغتيال المنظم والمبرمج للعقول العلمية السورية، بحيث باتت هذه الظاهرة أشبه بالحالة المنظمة والمبرمجة أو كأنها سياسة منهجية متصاعدة تهدف إلى إفراغ البلاد من علمائها وكوادرها ونخبها العلمية والمثقفة، حتى باتت حالة خطيرة تهدد مستقبل سوريا وأجياله المقبلة ونحن على يقين أن هذه السياسة يشترك فيها أكثر من طرف إقليمي ومحلي ممن ارتبطت مصالحهم مع سياسة العدو أو مع مصالح بعض دول الجوار، ومن هنا فكل ما يجري في سورية من تدمير وتخريب لمعالمنا الثقافية هو مخطط رهيب وحاقد لإزالة شواخص سورية وبنيتها الحضرية، يريدون من خلاله القضاء على ذاكرتنا وحضارتنا وثقافتنا وتراثنا واستبدال العلم بهمجية التخلف والوفاء والمحبة بالبغض والكراهية، كما فعلت إسرائيل التي دمرت وما زالت تدمر حضارة فلسطين وآثارها وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الغرب الذين سرقوا حضارة العراق ونهبوا متاحفه.

 

وفي سياق متصل تجري الآن ومنذ اليوم الأول للأزمة عمليات محو الشخصية السورية وتدمير هوية عقل الإنسان السوري من خلال جملة من الخطوات والإجراءات منها، بروز ظاهرة التضخم الحاد في مشكلة تسرب وغياب وترك الأطفال للمدارس بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد، بالإضافة إلى الاستخدام المفرط للقتل وعدم الأمن والاقتتال الطائفي وانعدام القانون والجثث المرمية والرؤوس المقطوعة في الطرقات هذا ما أدى إلى ظهور العديد من الأمراض النفسية المعقدة داخل المجتمع السوري، وخصوصا عند شريحة الأطفال كالقلق النفسي والعنف الأسري والاجتماعي.

 

هذه الأمراض بلا شك سيكون لها الأثر السلبي البالغ في إعادة بناء مجتمع آمن في المستقبل، لكن كل هذه الأمور هي وقتية, فبزوال الأزمة سيعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل الأزمة، لأن سوريا قادرة على أن تنجب من جديد العلماء والأطباء والمهندسين، سوريا التي بنت القاعدة الصناعية من المعامل والمصانع وشيدت الجامعات والمعاهد وبنت المستشفيات قادرة على أن تبنيها من جديد، والأهم إن الإنسان السوري لم يهزم من داخله وما زال يقف بالمرصاد ضد المشاريع والخطط الاستعمارية ضد أمتنا العربية.

 

وأخيرا ربما أستطيع القول إن استمرار النزف في الكفاءات والأكاديميين والكوادر العلمية يؤشر لنا الدليل على أن المستهدف هو سوريا وشعبه بكافة مكوناته وأطيافه ما يستوجب من الجميع وقفة جادة ومسؤولة تبعد الخراب والتدمير عن الشأن السوري المؤثر بفعالية في المنطقة الإقليمية والدولية.

 

* د. خيام محمد الزعبي: كاتب وباحث سوري متخصص في العلاقات الدولية، khaym1979@yahoo.com

إقرأ أيضا