أحمد الشيخ ماجد – عرب الهور

ينحاز الإنسانُ بفطرتهِ إلى حبّ الطبيعة, ودائماً يتغنّى بنسيمها وهوائها العذب, ويتكلّم باندهاش عن الخضرة التي تتسم بها, ويصف بذهول شمسها التي تنثر خيوطها الذهبية, وتنوّر المكان بأشعتها, وعن مياهها المنسكبة من الأنهار الجميلة.
من هذه الأماكن هو \”الهور\” الطبيعة المكتنزة بالجمال والعطاء الإنساني النقيّ, وما يميّز \”الهور\” ليس جماله الساحر فقط, ولكنه يتمتع بمزايا كثيرة, أوّلها عمق التأريخ, فمنها تعلّمت البشرية وهج الحروف في التعليم والكتابة, وثانياً سكانها الذين يشكّلون عمقاً تراثيّاً زاخراً بأحاديث, وأسرار كثيرة يقف الإنسان عندها بتأمل.

 أحمد الشيخ ماجد - عرب الهور

للأهوار عشاقها, ومحبّوها الذين أحبوها بصدق, فنقلوا لنا أجمل الاحاديث وأطيبها عن ذلك الإرث التاريخي الممتد إلى سبعة آلاف سنة, ويوجد من تحدّث عنها وكتب, ولكنها كتابة لا تعدو إلّا أن تكون جافة وجامدة لا يقبلها المتلقي أبداً, ذلك انه يكتب عن ظواهر يعرفها القاصي والداني, وبطريقة تبعث على الملل.
وثمة من كتب, ولكنه حاول الولوج في عمق الأهوار لكي ينقل لنا الحقيقة التي ينشدها الجميع, بأسلوب سردي جاذب محبّب من قبل الجميع. من هؤلاء الذين عشقوا الأهوار, وكتبوا عنها (وليفريد ثيسيغر) صاحب كتاب (عرب الهور) الذي ترجمه إلى العربية الدكتور سلمان عبد الواحد كيوش. وهو الآخر أيضاً يحب هذه البيئة لارتباطه بها, ومن يرى كتاباته يجده غارقاً في حبها, وإنه طوال حياته كان يروم أن يقدّم شيئاً للجنوب العراقي العظيم, فهو يقول في مقدمة الكتاب: (لديّ هاجس قديم أرّقني لسنين طوال، هاجس كتابة شيء عن الجنوب العراقي الزاخر بالسحر).
الكتاب رائع، ويحتوي على أسرار كثيرة، تشكّل أهمية بالغة لكل من يريد أن يعرف أهمية الأهوار. كتبه (ثيسيغر) بأسلوب قصصي جذاب، ويأخذ القارئ إلى عوالم ممتعة، وساحرة عن إطلالة الجمال والطبيعة الخلابة. وكذلك يعطي نمطاً كافياً عن العشائر التي تسكنها، وكيفية تعاملهم مع الحياة والناس. انه دراسة غنية عن ذوي الجباه السمر الذين لا يعرفون من حياتهم إلا ما تجود به الطبيعة عليهم من نعم ربانيّة, في غرس الزرع, وتربية الجاموس. ويطلق عليهم المعدان. القوم الذين يتمتعون بصفاء ونقاء روحي عجيب يجعلهم بسطاء, يعيشون حياة قانعة مهادنة من خلالها يتركون كل شيء, منشغلين بالطبيعة المائية التي انعم الله عليهم بها.. يتضمن الكتاب حكايات كثيرة يستطيع القارئ من خلالها أن يكشف أسرار ساكنيّ المكان, فالمؤلف عاش معهم منذ نهاية 1951 إلى عام 1958، وأحسب أن هذه المدة كافية جداً لأن يتعرّف على \”المعدان\” وسكنة الأهوار عموماً, فهو يقول في مقدمته: \”عشتُ بين سكان الأهوار واحداً منهم، وأصبحتُ بشكل محتوم آلفاً طرقهم إلى حدّ ما، ومن خلال مذكراتي التي كنت أدوّنها بشكل يومي حاولت أن أعطي صورة عن الأهوار، وعن الناس الذين يعيشون هناك\”.

أشار المؤلف إلى خفايا لم يلتفت إليها أحد, فربما سمعناها مراراً, ولكنها تمر مرور الكرام علينا, فجاءت بأسلوب سرديٍّ متقن, بعيداً عن التعقيدات والطلاسم, فهو كتب عنها بقلب أحب الأهوار, وعشق مسطحاتها المائية. وبهذا يقول الدكتور سلمان كيوش في مقدمة الكتاب: \”انه باختصار يصف كل شيء يراه المؤلف ويعتقده مهمّاً بأسلوبه البسيط الشيّق، مكملاً تلك التسجيليّة الدقيقة بعدد وافر من الصور التي توضّح طبيعة تلك الحياة، فهو لذلك صورة ناطقة لكل مفردات حياة امتازت بالبساطة والتلقائية والجمال\”. وفعلاً انه تكلم عن جميع تفاصيل الحياة هناك, وبمشاعر فيّاضة, تنم عن إحساسه بالطبيعة, والجمال الأخّاذ الذي ينقل الأرواح إلى آفاق رحبة, ويجعلها تصوّر اجمل اللحظات بأسلوب مشبع, وغني.

لذلك باستطاعة أي باحث يريد أن ينهل من معين (السومريين) أن يجد في هذا الكتاب ما يريد, فهناك عادات وتقاليد اجتماعيّة, وأماكن ما كنّا سمعنا بها من قبل, وطريقة حياة تبعث على الفضول. فمن يقرأ الكتاب بتأنٍ يخيّل له, وهو يركب \”المشحوف**\” ويسرع بمجاذيف أشواقه ليبحر به في دروب القصب والبردي متذكراً ذلك الزمن الوردي البهيج في علاقات أبنائه, النزيه في توزيع قيمه ومبادئه الفطرية المأخوذة من جماليّة المكان, وبهائه.

ترجمه الدكتور سلمان كيوش بطريقة بارعة جداً, وأحسب أنه بذل جهوداً كثيرة في ترجمة هذا الكتاب. حيث أن الترجمة عملية لغويّة وفكريّة وذهنيّة معقدة تتطلب متاعب كبيرة ممن يقوم بها, فالمترجم لا بد أن يستوعب النص الذي كتب بلغة أخرى استيعاباً يتعدى الشكل والأسلوب إلى المضامين والأفكار، وهذا امر يتطلب مهارة لغوية وفكرية نافذة، وبالتالي فانه بلا شكّ ناجم عن ذهنيّة متوقدة لا يفوتها شيء. لذلك ينبغي على المترجم أيضاً أن ينقل النص إلى لغة أخرى تختلف في التركيب النحوي، ومجال الدلالات والمعاني، نقلاً يضمن فهم النص بكل دلالاته ومعانيه، ويشمل كذلك إطاره الثقافي والتاريخي، وهذا عمل ينطوي على طاقة إبداعية هائلة.

وكان الدكتور سلمان كيوش جديراً بهذه المهمة. وإضافة إلى الترجمة زوّد الكتاب بمداخل نثرية رائعة منها ما افتتح بها الكتاب, وهي أيضاً تعطي صورة جميلة عن الأهوار: (في ليلةٍ، قبل القصب، قبل رسو المشحوف، تسلّلتْ ذكورة الأنهار, وضاجعت.. بشهادة القمر.. رحم الأرض الخفيض, فأولدته الأزل).

الكتاب مهم, واردنا من خلال هذا المقال تسليط الأضواء عليه, فهو جدير بالاقتناء والقراءة. شخصياً يجعلني الكتاب انسى كل ما حولي, وانتقل حيث القصب والبردي, وعبق التأريخ والحضارة, ويأخذ بيّ إلى حقبة رائعة جداً, عاش بها سكان هذه الأرض.. وهنا لا بد من ملاحظة: وهي أن الكتاب صدر أول مرّة في عام 2008 وطبع مرّة ثانية في \”دار المرتضى ـ مصر\”..
_________________________________

* رحالة بريطاني ولد في أديس أبابا عام 1910 وتوفي عام 2003. سافر إلى كل من الجزيرة العربية (مناطق من السعودية والإمارات)، والعراق وإيران وباكستان وغرب أفريقيا، وكتب عنها عدة كتب اشهرها كتاب \”الرمال العربية\”(بالإنكليزية: Arabian Sands) وعرب الأهوار Marsh Arabs.

** المشحوف وجمعه مشاحيف، وهو زورق من قصب البردي يستخدمه سكان الأهوار للتنقل والصيد ـ سومري الأصل .

إقرأ أيضا