ما يزال علي أمير (18 عاما)، يرتدي “الكمامة” بشكل يومي رغم انتهاء تفشي فيروس كورونا، لأنه وجد فيها حلا لتقليل حدة الروائح الكريهة المنتشرة في سوق “هرج” وسط مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار، القريب من منزله، والذي يشهد تراكم أكوام الخضار المتعفن وبقايا أحشاء الحيوانات الناتجة عن عمليات الجزر العشوائي.
يتحدث أمير لـ”العالم الجديد”، بأن “هذه الروائح دائما ما تسبب له الصداع ومشاكل في الجهاز التنفسي ويضطر في كل مرة يمر بها بالسوق أن يقوم يغير ملابسه ويستحم، خاصة وأنها تسبب له الحرج أمام أصدقائه في محل عمله”.
الملوثات البيئية في عموم البلاد، أصبحت تشكل واحدة من أخطر المسببات للأمراض السرطانية والتنفسية والجلدية، في ظل عدم وجود حلول حكومية حقيقية، كما أن الدعاوى القضائية بشأن أماكن التلوث لم تنتهِ هي الأخرى لحلول أو تحد مما يجري من تلوث.
وصادف يوم أمس الإثنين، وحسب تقويم اليونسكو، اليوم العالمي للبيئة، إذ تسلط “العالم الجديد”، الضوء على التلوث في محافظة ذي قار، الواقعة جنوب العاصمة بغداد بـ360 كيلومتر، والتي يتجاوز عدد نفوسها المليونين، فيما يعاني أهلها من الملوثات بمختلف أشكالها، ما فاقمها هي المتغيرات المناخية مؤخرا، وشح المياه.
مدير الشرطة البيئية في ذي قار العميد رشيد جاسم، يقول لـ”العالم الجديد”، إن “الدعاوى القضائية التي تم رفعها منذ عام 2011 وحتى مطلع 2023 بلغت 1300 دعوى، والنسبة الأكبر من هذه الدعاوى تم حسمها بتغريم المتجاوز او المتسبب بالتلوث او تأجيل بعضها”.
ويوضح جاسم، أن “الملوثات التي يسببها القطاع الحكومي تشكل ما يقارب 30 بالمئة، وهي تتوزع بين مخلفات المجاري أو بعض الشركات النفطية، بالإضافة إلى الأبخرة التي تطلقها بعض المصانع”، مبينا أن “المخلفات التي يسببها المواطن يتم اتخاذ اجراء بحقها من قبيل الغرامات المالية أو مصادرة بعض المواشي التي يتم تربيتها داخل الاحياء أو الرعي العشوائي أو مشاريع من دون موافقة بيئية مثل أبراج الاتصالات والتلوث الاشعاعي”.
يذكر، أن وزير البيئة نزار آميدي، سبق وأن أعرب في تصريح صحفي، عن مخاوفه من احتمالية تصاعد نسب التلوث والملوحة مع قدوم فصل الصيف وقلة الامدادات المائية الواردة الى العراق من الدول المتشاطئة، وأن أبرز المحافظات المتأثر من هذه المشكلة هي ذي قار والبصرة والمثنى، حسب تصريحه.
وكانت دراسة عالمية سنوية أجرتها شركة سويسرية لتصنيع أجهزة تنقية الهواء، صدرت في آذار مارس الماضي، أشارت إلى أن العراق ثاني أكثر دولة تلوثا، بعد تشاد الواقعة في وسط إفريقيا.
وإلى جانب هذه المشاكل، تبرز قضية هامة، وهي الانبعاثات الصادرة عن الحقول النفطية المنتشرة جنوبي العراق، ووفقا لتحقيقات غربية أظهرت سابقا، أن عشرات الحقول النفطية التي تعمل فيها كبريات الشركات النفطية مثل بريتش بتروليوم (BP) وإيني (ENI) وإكسون موبيل (MOBILEXXON) وشيفرون (CHEVRON) وشل (SHELL) لا يتم الإعلان فيها عن ملايين الأطنان من الانبعاثات الناتجة عن حرق “غاز الشعلة” الذي يرافق إنتاج النفط فيها.
جدير بالذكر، أن “بريتش بتروليوم” و”إيني” و”شل” و”شفرون” و”إكسون موبيل”، تبنت تعهد البنك الدولي لعام 2015 الخاص بالتخلص من ظاهرة غاز الشعلة بحلول عام 2030 إلا في حالات الطوارئ، فيما قالت شل إنها ستتخلص من ذلك بحلول 2025.
لكن هذه الشركات تقول إنه عندما تعاقدت مع شركة أخرى لإدارة العمليات اليومية في هذه الحقول النفطية، تتحمل تلك الشركات مسؤولية الكشف عن الانبعاثات الغازية الناتجة عن حرق غاز الشعلة.
نسبة صادمة
من جانبه، يؤكد الخبير البيئي جاسم الاسدي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الاجراءات المتخذة بإقامة الدعاوى القضائية هي غير كافية للحد من التلوث الحاصل في المحافظة وبقية المدن العراقية، فأن الأمر يتطلب اجراءات آنية وحاسمة في ذات الوقت، مثل تدخل قوة أمنية وغلق المنشآت المخالفة”.
ويتابع الأسدي، أن “الأمر بحاجة أيضا إلى حملة توعية المخالفين بالآثار السلبية لجميع الملوثات”، مشيرا إلى أن “الدعاوى القضائية هي إجراء جزئي، وفي ذات الوقت نجد أن المؤسسات الحكومية هي المتسبب بالتلوث، كما هو الحال في محطات المجاري التي تقوم برمي مخلفاتها في مياه الانهر من دون معالجة، والماء هو العنصر الاساسي في جميع الصناعات وحركة حياة الانسان”.
يذكر أن مديرية بيئة ذي قار، كشفت سابقا لـ”العالم الجديد”، أن مديريتي البلدية والمجاري في المحافظة خرقتا الشروط البيئية بقضية موقع الطمر الصحي الذي يتسبب باختناق العشرات من المواطنين نتيجة اعمال الحرق التي تحصل فيه، بالإضافة إلى رمي مخلفات محطات المجاري في نهر الفرات دون تطبيق أدنى درجات السلامة، ما يتسبب بتلوث النهر وقتل الكائنات الحية فيه.
إلى ذلك، يؤكد مسؤول شعبة الأمراض الانتقالية في صحة ذي قار حيدر علي حنتوش، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “85 بالمئة من المياه الواصلة إلى المنازل هي ملوثة وغير صالحة للشرب”.
ويبين حنتوش، أن “الفحوصات المختبرية التي تجرى على هذه المياه، تثبت بشكل مستمر تردي نوعية المياه وعدم خضوعها للتنقية الجيدة داخل المحطات”.
وبرزت خلال السنوات الأخيرة، أزمة الجفاف بشكل جلي في العراق، حيث تحاول تركيا منذ سنوات، استخدام مياه نهري دجلة والفرات، لتوليد الطاقة الكهربائية، فأعلنت عن تشييد عدد من السدود، بدءا من العام 2006، منها سد إليسو الذي دخل حيز التشغيل عام 2018، ما حد من تدفق المياه إلى العراق، وأدى ذلك إلى تفاقم الخوف من النقص الحاد وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات اليومية للزراعة والسكان.
كما غيرت إيران مجرى نهر الكارون في العام 2018، حين أعلن معاون وزير الزراعة الإيراني آنذاك، علي مراد أكبري، عن قطع حوالي 7 مليارات متر مكعب صوب الحدود العراقية، وتخصيص مبلغ 8 مليارات دولار لوزارات الطاقة والزراعة للتحكم بحركة المياه، وأن هذه الكميات من المياه ستستخدم في 3 مشاريع رئيسية في البلاد، منها مشروع على مساحة 550 ألف هكتار في خوزستان، و220 ألف هكتار في خوزستان أيضا وإيلام، في غرب إيران، الأمر الذي أثر على مياه شط العرب وزاد من ملوحتها، وأضر بالأراضي الزراعية في محافظة البصرة، كما قطعت إيران كافة الأنهر الواصلة لمحافظة ديالى، ما ادى إلى فقدانها الزراعة بشكل شبه تام.
وفي هذا الصدد، يوضح الخبير القانوني محمد علي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “قانون حماية وتحسين البيئة البيئة رقم 27 لسنة 2009 حدد في الفصل التاسع منه الأحكام العقابية الخاصة بالمخالفين، لكن هذه الأحكام لم تعد تلبي الطموح لردع المتجاوزين على النظام البيئي في البلاد”.
ويشير علي، إلى أن “القانون أورد نوعين من العقوبات، عقوبات مباشرة في المادة 33، وعقوبات غير مباشرة تختص بها محاكم الموضوع وردت في المادتين 34 و35 من القانون”، لافتا إلى أن “العقوبات المباشرة تضمنت الغرامة بين مليون دينار إلى 10 ملايين دينار، وكذلك الغلق المؤقت القابل للتمديد، وهي عقوبات تفرضها الجهات الإدارية البيئية”.
ويكمل حديثه أن “العقوبات غير المباشرة تختص بها محاكم الموضوع، وتكون أما بالحبس مدة لا تقل عن 3 أشهر أو غرامة لا تقل عن مليون دينار ولا تزيد عن 20 مليون دينار، أو تطبق كلتا العقوبتين بحق المخالف لأحكام القانون البيئي، مع التشديد على مضاعفة العقوبة بحق المخالف في حال تكرار الجريمة البيئية”.
ويلفت إلى أنه “بالنسبة لعقوبة السجن من 5 سنوات فما فوق الورادة في المادة 35 من القانون، فقد وردت على سبيل الحصر في ثلاثة مواضع من خلال الفقرات ثانياً وثالثاً ورابعاً من المادة 20، وهي الأمور المتعلقة بالمواد الإشعاعية الخطرة وذات التأثير على حياة الانسان “، مبينا أن “المشرع العراقي ملزم بإعادة النظر في هذه العقوبات الواردة بقانون البيئة النافذ بعد مرور قرابة 15 عاماً على اقراره، بسبب التغييرات البيئية الحاصلة في المنطقة والعالم أجمع، من أجل ردع المخالفين والحفاظ على البيئة المحلية وإدامتها”.
جدير بالذكر، أن ظاهرة حرق النفايات من الظواهر المنتشرة في العاصمة بغداد والمحافظات الجنوبية بكثرة، ودائما ما ترتفع غمامة سوداء تغطي سماء المنطقة مع رائحة كريهة، تستمر لساعات طوال، نتيجة لحرق النفايات.
يذكر أن هناك العديد من مشاريع إنشاء معامل لإعادة تدوير النفايات وتحويلها إلى مواد صالحة للاستخدام، مثل الأسمدة أو فرز المواد الصلبة فيها، قد طرحت خلال الأعوام الماضية، لكن في العام 2014 وبسبب الأزمة المالية والحرب على تنظيم داعش توقفت أغلبها.