تتزايد أعداد الأطفال المتسولين في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار، وتحديدا في الأسواق والمناطق التجارية وحتى السكنية، ولكن ما يثير القلق بشكل خاص، هو ظهور أطفال سوريين بينهم، في تطور غير مسبوق للظاهرة، التي ترتبط بتداعيات الحرب في سوريا وارتفاع أعداد اللاجئين الذين يعيشون في العراق.
وتكشف هذه الحالة عن وجود شبكات تقوم باستغلال الأطفال ودفعهم باتجاه هذه الحالة سواء كانوا عراقيين أو سوريين للمتاجرة بهم، فيما لا زالت الإجراءات والتدابير الحكومية دون المستوى المطلوب الذي يحتاج الى القضاء عليها وتلبية متطلبات المحتاجين.
وبعد الأحداث التي شهدتها سوريا في العام 2011، اضطرت الآلاف من العوائل السورية إلى النزوح نحو العراق، بالتزامن مع أزمة احتجاجات كانت تعاني منها البلاد، تسببت باضطرابات أمنية وسياسية في حينها، أعقبها اجتياح تنظيم داعش لعدد من المحافظات، ما أدى إلى أزمة اقتصادية خانقة، حيث تزايدت معدلات البطالة بين العراقيين، ما دفع النازحين السوريين الذين لم يجدوا فرصا للعمل إلى التسول والذي يحقق عائدات مالية يومية ليست بالقليلة، ليتحول الأمر إلى مهنة بديلة.
تجدر الإشارة إلى أن وافدين من جنسيات أجنبية مختلفة يدخلون إلى العراق خلال مواسم الزيارات الدينية ويتوجهون إلى المحافظات والمدن الدينية كالنجف وكربلاء والكاظمية والأعظمية وسامراء، ويقيمون هناك بشكل غير قانوني ويمارسون التسول، وينتقلون منها إلى محافظات أخرى.
وبهذا الشأن، يقول عضو لجنة مكافحة الاتجار بالبشر في محافظة ذي قار، علي الناشي، في حديث لـ”العالم الجديد”، إن “إحصائيات مقلقة رصدت بشأن ظاهرة التسول بين الأطفال، حيث تم رصد ما بين 100 الى 120 حالة تسول في شوارع المدينة خلال الأشهر العشرة الماضية، وذلك لأطفال دون السن القانونية، حيث تصنف مثل هذه الحالات ضمن قضايا الاتجار بالبشر”.
ويوضح الناشي، أن “حالات الاتجار بالبشر تشمل أيضا استغلال الأطفال في الأعمال الشاقة مقابل أجور زهيدة، بالإضافة إلى استغلالهم لأغراض أخرى، بما في ذلك الترويج وبيع المخدرات”.
ويؤكد أن “هذه الظاهرة لا تقتصر على الأطفال العراقيين فقط، بل تشمل أطفالا سوريين أضا، الأمر الذي يزيد من تعقيد المشكلة، ويعكس جانبا آخر من معاناة اللاجئين السوريين داخل العراق، ويشكل تهديدا حقيقيا للسلم والاستقرار الاجتماعي في المحافظة”.
وتعج طرقات وتقاطعات العاصمة بغداد والمدن الأخرى بمئات المتسولين، بينهم أطفال ونساء ورجال كبار في السن، وأعدادهم ترتفع بصورة مستمرة، وخاصة الأطفال والفتيات بأعمار المراهقة، من دون أن يكون هناك أي رد فعل حكومي تجاه تنامي هذه الظاهرة.
ومع تحقيق المتسول إيرادات يومية مجزية، تحولت ظاهرة التسول في العراق إلى مهنة، تدار من قبل أشخاص متنفذين يعملون في الخفاء لتنظيم عمل المتسولين، حيث نبه وزير العمل والشؤون الاجتماعية، أحمد الأسدي، في وقت سابق، إلى رفض متسول لفرصة عمل بمطعم مقابل 500 ألف دينار شهريا (نحو 335 دولارا) لأنه يكسب 60 ألفا (نحو 40 دولارا) باليوم.
ويردف الناشي، أن “تلك الظاهرة قد تتحول إلى أزمة اجتماعية إذا لم تُتخذ التدابير اللازمة بشكل عاجل لمعالجتها، خصوصا مع غياب الخطط الوقائية، ما قد يزيد من تعقيد الوضع”، داعيا إلى “دعم ورعاية الجهات المختصة في المحافظة من خلال دورات تدريبية متخصصة ودعم مالي وتقني من أجل التعامل مع مثل تلك الحالات بطريقة أكثر فعالية”.
ويوضح عضو لجنة مكافحة الاتجار بالبشر، أن “ظاهرة تسول الأطفال لا تعكس معاناة الأفراد فقط، بل تشكل خطرا أكبر على الأمن الاجتماعي في المحافظة، حيث يتم استغلال تلك الحالات في أنشطة غير قانونية قد تهدد استقرار المجتمع”.
يشار إلى أن الأجهزة الأمنية تشن بين وقت وآخر حملات لمكافحة التسول، ويتم اعتقال عشرات المتسولين من كلا الجنسين ومن مختلف الأعمار وإيداعهم التوقيف، إلا أن هذه الإجراءات لم تسهم بالقضاء على ظاهرة التسول سواء من المتسولين العراقيين أو العرب أو الجنسيات الأخرى.
وكشف الناطق باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، في آذار مارس 2023، عن وجود ثلاثة أنواع من المتسولين: الأول هم المتسولون المحتاجون، وهؤلاء أشخاص يكونون تحت خط الفقر، ويقومون بالتسول لتوفير أدنى مستوى من احتياجاتهم الفعلية، أما النوع الثاني فهم الأشخاص من الجنسيات غير العراقية، ومن بينهم الهنود والسوريون، والنوع الثالث يتعلق بعصابات الجريمة المنظمة، التي تستغل المتسولين.
وفي آذار مارس 2023، أعلنت وزارة الداخلية عن بدء حملة كبرى لمنع التسول في عموم العراق، بإشراف اللجنة العليا لمكافحة الاتجار بالبشر، ومن خلال قسم مكافحة الاتجار بالبشر في مديرية مكافحة الجريمة المنظمة بوكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية.
وكشف تحقيق استقصائي لمؤسسة نيريج، نشرته “العالم الجديد” حصريا في 2019 النقاب عن تقرير أمني سري يؤكد وجود أربع مجموعات تمتهن التسول في بغداد، أولاها تعود إلى سكان المناطق العشوائية، لا سيما شرق العاصمة وجنوبها، والثانية من النازحين ما بعد 2014، والثالثة عبارة عن أسر “غجرية” جاءت من إقليم كردستان العراق، والرابعة من جنسيات أخرى، كالسورية والباكستانية والهندية، وقد أشر التقرير سكن هؤلاء المتسولين في أكثر من 20 فندقا ببغداد، يدار جميع هؤلاء المتسولين من قبل أشخاص معلومين يتحكمون بعملية توزيعهم وتحديد الواجبات المناطة بكل شخص منهم.
في حين، قال المتحدث باسم وزارة الداخلية، العميد مقداد الموسوي، خلال حديث لـ”العالم الجديد” في تقرير سابق، إن “هناك متابعة دقيقة للأجهزة الأمنية للوافدين العرب والأجانب، ممن لا يملكون أي إقامة، ويعملون بشكل غير رسمي في العراق، أو من الذين يزاولون التسول، وأنها تعمل على ترحيل العديد منهم إلى بلدانهم بشكل شبه يومي، وعمليات متابعة الأشخاص والشبكات المسؤولة عن المتسولين مستمرة، وهناك عقوبات مختلفة بحق كل من يمارس هذا العمل غير القانوني سواء من قبل العراقيين أو الأجانب.
وأكد بيان للمركز الاستراتيجي لحقوق الانسان في العراق، تابعته “العالم الجديد”، أن “التسول الأجنبي في العراق تقف خلفه عصابات الجريمة المنظمة، ويمثل أخطر صورة من صور الاتجار بالبشر”، متهما تلك العصابات بـ”إدخال المتسولين الأجانب إلى العراق تحت عدة عناوين، منها العمالة والزيارات السياحية والدينية، ومنها التستر بصفة اللاجئ”.
وفيما أشار البيان، إلى أن المتسولين ينحدرون من دول آسيوية في مقدمتها بنغلادش، أشر إلى احتلال حملة الجنسية السورية، المرتبة الأولى بين المتسولين العرب، مبينا أن وزارة الداخلية أبعدت أكثر من 10 آلاف متسول أجنبي خلال العامين الحالي والماضي، فيما يبلغ مجموع المتسولين العراقيين والأجانب في البلاد إلى أكثر من 500 ألف متسول أغلبهم من الأحداث والنساء.
من جانبه، يحذر مدير مكتب حقوق الإنسان في محافظة ذي قار، داخل عبد الحسين، حلال حديث لـ”العالم الجديد”، من “تفشي ظاهرة التسول بين الأطفال في شوارع المحافظة”، واصفا إياها بأنها “واحدة من أبرز الظواهر السلبية التي تؤثر على المجتمع المحلي، وأن اللجنة المختصة في المحافظة تواصل جهودها لتشخيص هذه الظاهرة المتزايدة، في ظل ظهور عدد كبير من الأطفال دون السن القانوني الذين قد يتم إجبارهم على التسول في الأماكن العامة”.
ويوضح عبد الحسين، أن “هذه الظاهرة تشكل خطرا كبيرا على المجتمع، حيث يتم استغلال الأطفال في جوانب أخرى غير التسول، منها زجهم في سوق العمل ومزاولة أعمال شاقة، في مؤشر على ضعف الوضع الاقتصادي المحلي”.
ويشير إلى أن “الأطفال المتسولين بدأوا في الآونة الأخيرة بالانتقال إلى المناطق السكنية البعيدة عن أعين القوات الأمنية”، منوها إلى “تأشير أطفال من الجنسية السورية يزاولون التسول، ما يزيد من تعقيد المشكلة، ويستدعي تدخلا عاجلا من الجهات المعنية”.
وحول الإجراءات القانونية التي تتعلق بالتسول، يوضح مدير مكتب حقوق الإنسان في محافظة ذي قار، أن “المتسولين الذين يلقى القبض عليهم من الأطفال يتم إخضاعهم لبرامج إرشادية من أجل ردعهم عن العودة للتسول، وفي حال تم القبض على أطفال سوريين متسولين، فإن الإجراءات القانونية قد تكون مختلفة كونهم من جنسيات غير عراقية”.
وكان الخبير القانوني عدنان الشريفي، قد فصل الحديث حول الملاحقات القانونية لهذه الظاهرة، في تصريح سابق لـ”العالم الجديد”، بالقول إن “المادة 390 من قانون العقوبات العراقي تنص على أن يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر واحد ولا تزيد على ثلاثة أشهر كل شخص أتم الثامنة عشر من عمره وكان له مورد مشروع يعيش منه أو كان يستطيع بعمله الحصول على هذا المورد، يعمل متسولا في الطريق العام أو في المحلات العامة أو دخل دون إذن منزلا أو محلا ملحقا به لغرض التسول، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنة إذا تصنع المتسول الإصابة بجروح أو عاهة أو استعمل أية وسيلة أخرى من وسائل الخداع لكسب إحسان الجمهور أو كشف عن جرح أو عاهة أو الح في الاستجداء، كما يحق للسلطات المختصة تسفير هؤلاء المتسولين إذا كانوا غير عراقيين لمخالفتهم أحكام قانون إقامة الأجانب رقم 76 لسنة 2017”.
يذكر أن تسول النساء العربيات في العراق يشجع بعض فئات المجتمع على امتهان التسول والذي يتم استغلالها من خلال عصابات الجريمة المنظمة للحصول على عائدات مالية من هذه المهنة، وكذلك الترويج للدعارة والمخدرات من خلال المتسولين.
ووصف باحثون في تقرير سابق لـ”العالم الجديد”، التسول بأنه لم يعد ظاهرة، بل دوام رسمي مبرمج تقوده مافيات، تقدم لعناصرها كل ما يحتاجونه من مستلزمات كالغذاء والدواء والمأوى، ومن بينهم أطفال يتم اختطافهم أو استئجارهم من ذويهم.
إلى ذلك، يقول الكاتب صلاح الموسوي، في حديث لـ”العالم الجديد”، أن “ظاهرة التسول بين الأطفال تشمل عدة فئات، لكل منها ظروف وملابسات تختلف عن الأخرى، أولى تلك الفئات هي التي تضم الأطفال في سن التمييز (دون الـ18 عاما) الذين تدفعهم ظروفهم الاقتصادية القاسية إلى ممارسة التسول من أجل الحصول على المال، وأما الفئة الثانية فتتكون من الأطفال الذين يعانون من تنشئة أسرية غير سليمة أو من بيئات اجتماعية بغيضة، ما ينعكس على سلوكهم وتصرفاتهم ولكن يمكن تقويم سلوكياتهم إذا تمت معالجتهم بشكل مناسب من خلال برامج تربوية وإرشادية”.
ويسترسل الموسوي، “أما الفئة الثالثة، فتتألف من الأطفال المشردين الذين يعيشون في الشوارع بعيدا عن أية رعاية أسرية أو اجتماعية، حيث يتم استغلالهم بشكل ممنهج من قبل عصابات أو أفراد لتحقيق مصالحهم الخاصة”.
ويشدد على “ضرورة أن تحظى تلك الفئات بمتابعة ورعاية مستمرة”، مشيرا إلى أن “المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الطفل تضمن حماية هؤلاء الأطفال من الأعمال القسرية والقسوة والاستغلال”.
وكان مدير قسم مكافحة التسول في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، هيثم عادل، قد أكد في تصريح لـ”العالم الجديد”، في 14 كانون الثاني يناير 2024، أن الوزارة تلقت تكليفا في عام 2015 بتشكيل قسم مختص في مكافحة التسول، كما شكلت لجانا في المحافظات بالتعاون مع مختلف الوزارات والمؤسسات لتعزيز جهود مكافحة التسول.
وساهمت أسباب كثيرة في زيادة ظاهرة التسول، منها الأزمات السياسية والاقتصادية التي ألقت بظلالها على المواطنين، حيث لم تنخفض نسبة الفقر منذ أكثر من 10 سنوات، عن 20 بالمئة، على الرغم من الخطط والمبادرات التي تُطلق من قبل الحكومة إلا أنها لم تعالج جذور المشكلة، وبالتالي هي مستمرة.
وكان رئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي، أعلن عن إطلاقه حملة لمكافحة التسول، وقال في حينها “شخّصنا عصابات تستغل قضايا إنسانية أبشع استغلال من خلال التسوّل ووجهنا وزارة الداخلية متابعة الموضوع ومعالجتها وملاحقة هذه العصابات وتقديمها أمام القانون”، وقد أصدر بوقتها توصية لوزارتي الداخلية والعمل والشؤون الاجتماعية لمعالجة الظاهرة.