يعتبر الكاتب الإسرائيلي أهارون أمير من المناهضين للدولة اليهودية الدينية والداعين لدولة قومية تتعايش فيها كل الشعوب الكنعانية التي تتواجد على التراب الفلسطيني. ومع أن دعوته تلفيقية، لكنها استطاعت أن تصل إلى أذن بشير الجميل، ويده اليمنى ومستشاره الشاعر سعيد عقل. ولم يقطع خيط هذا التواصل غير اغتيال الجميل وقناعة عقل أنه ينفخ ببالونة مثقوبة. ومن المؤسف أن الإعلام العربي لم يلاحظ أهارون أمير. واكتفى من بين الحمائم بعاموس عوز، ثم إتغار كيريت. الأول برؤيته الملحمية والتاريخية لشعب إسرائيل، والثاني بلهجته الساخرة التي تبلغ حدود الكوميديا السوداء. ولكن ليس لدى أي منهما رؤية أمير الحضارية، التي تشبه نغمة الشعوب النائمة (الميتة أو المشرفة على الانقراض) أمثال السريان والأشوريين والكلدان. وترجمة هذه المقالة مجرد تنويه لوجود أصوات نائمة – إن لم نسعفها وهي في غيبوبتها، قد تنقرض، وتأكلها النزعات العدوانية، وغير المؤمنة بسياسة الحوار.
مقالة أهارون أمير
عندما طُلِب مني أن أفكر بمستقبل دولة إسرائيل على مدى عدة عقود من الزمن، لم أجد مفرا من أن أتذكر أنني سُئِلت أكثر من مرة في سبعينات القرن العشرين ـ قبل حرب يوم الغفران وبعدها، سواء في إسرائيل أو في الخارج ـ عما إذا كنت أشعر بأن هذه الدولة سوف تظل قائمة في عام 2025، على سبيل المثال، أو أنها ستكون بالفعل مجرد حلقة من حلقات التاريخ. وفي ذلك الوقت كنت أجيب، بمعارضة شديدة ولكن باحترام، بأنني لست متأكداً على الإطلاق من أن الاتحاد السوفييتي أو الولايات المتحدة سيستمران في المستقبل. ولكنني كنت على استعداد تام للمراهنة على استمرارية دولة إسرائيل (رغم أنني كنت أفترض بطبيعة الحال أنه إذا حان موعد سداد الفاتورة فسوف أكون على الأرجح بين الأموات).
والآن، انظر: على الرغم من القوة الهائلة والمتجانسة ظاهريا، انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1990، وكانت إسرائيل حينها في الثانية والأربعين من عمرها فقط، وبعد ست سنوات فقط من توقع المؤرخ الروسي أندريه أمالريك، باختفاء “الإمبراطورية الشريرة” في كتابه “هل سيبقى الاتحاد السوفييتي حتى عام 1984؟”.
ولكن هذا لم يحدث للولايات المتحدة بطبيعة الحال. ففي الوقت الحاضر، ومع تعرض كل دولة تقريباً على وجه الأرض لصدمات شديدة في اقتصادها وعملتها ومجتمعها، يبدو الأمر وكأن الإمبريالية الاحتكارية الأميركية تترسخ على نحو متزايد. ورغم هذا فإن علماء الاجتماع والسياسيين والمثقفين على جانبي المحيطين الأطلسي والهادئ يشيرون باستمرار إلى التناقضات الداخلية التي تتعمق في المجتمع الأميركي متعدد الأوجه، وإلى الأدلة المتزايدة على أزمة الهوية التي يعيشها، وفقدان التضامن، وتآكل الوعي المدني، والفساد الشامل الذي يكاد يكون منتشراً في كل مكان ـ وكل هذا قد يجعلنا نتوقع أن يكون “القرن الأمريكي”، وهو آخر قرون الألفية الثانية، هو أيضاً آخر قرون أميركا كدولة قومية موحدة وزعيمة للعالم.
ولكن لنعد إلى الموضوع الذي نتناوله، وهو تقييم مستقبل دولة إسرائيل. ففي السنوات الأولى من قيام الدولة، كانت مثل هذه الأسئلة تُطرح بشكل طبيعي ومتكرر، وبجو من الشك وعدم التصديق. وفي أصعب لحظات حرب 1948، كانت هذه الأسئلة مصحوبة بالرعب واليأس، أو على الأقل بالقلق الشديد الصادق بشأن المستقبل. وقبل أن تظهر إسرائيل إلى الوجود، في السنوات التي بدت فيها مجرد حلم، أو في أفضل الأحوال عبارة عن مثال مجرد ـ وهو الأمر الذي كان العديد من الحالمين بها يخجلون من الاعتراف به، حتى فيما بينهم، ناهيك عن الاعتراف به في العلن ـ كانت الأجواء مليئة بالأسئلة المباشرة حول فرص قيام إسرائيل، على الإطلاق، وحتى ما إذا كان ذلك بالضرورة حقاً أو مبررا.
في كل جيل، يكون الاهتمام بفهم أبعاد أو حتى سمات المستقبل الأساسية الذي تتطلع إليه قبيلة أو أمة أو نظام سياسي أو غير ذلك، مألوفًا تمامًا للمهتمين بالطقوس، ومن بينهم من لديه الخيال والذكاء الحاد – وكذلك بعض الآخرين الذين يعانون مم الهلوسة والكوابيس. غالبًا ما يكون هذا الانشغال قائمًا على أساس إيديولوجي أو حتى لاهوتي. وهذا يميز بشكل خاص تنبؤات الأنبياء التوراتيين بالغضب والدمار، وهو ما تخفف منه إلى حد ما نبوءات نفس الكتاب بأسفاره المتعددة، حين تعده بالعزاء والسلوان. ينطبق هذا أيضًا على الافتراض الأساسي للتاريخ المسيحي الكلاسيكي، الذي حاول جاهدًا تقديم إسرائيل “الجديدة” على أنها أطروحة مضادة لإسرائيل القديمة، وأن العهد “الجديد” موازٍ ومنافس في نفس الوقت للعهد “القديم”.
لا شك أن حالة اللايقين هي جوهر كل وجود، وخاصة الوجود الإنساني. وإذا تجرأنا ودخلنا في دائرة العبث واللاجدوى، فسوف يبدو في نهاية المطاف أن المفاجآت في سجلات القرن العشرين ليست مفاجآت على الإطلاق، وأن ما لم يكن متوقعاً ينبغي توقعه أكثر من أي شيء آخر. ولعل أولئك الذين يتمتعون بمنظور أوسع قد يصلون إلى استنتاج مماثل بشأن كل فصل من فصول وحالات الإنسان. وفي تاريخ مليء بالاضطهاد الذي تعرض له اليهود حتى تحولوا إلى شعب مشتت ومضطهد ـ وربما شعب يفتخر بحالته المؤسفة ـ قد يكتسب هذا الدرس أهمية حتمية أو ملحمية. ومن حيث المبدأ تقريباً، أصبحت الكارثة والإبادة جزءاً لا يتجزأ من الوعي الجماعي، وكلاهما مرتبط بالآخر، مثل محلون وكليون، الأخوين الإفراتيين (من إفراتة – مكان دفن راحيل زوجة يعقوب. هامش مترجم) في سفر راعوث ـ رمز الفشل والفجيعة.
وعلى هذا فلا ينبغي لنا أن يفاجئنا حين نرى أن الشكوك العميقة والمخاوف المروعة رافقت الاستيطان الحديث في أرض إسرائيل منذ البداية. بل إن هذه الشكوك والمخاوف تجلت في أغلب الأحيان علناً وبصراحة وبوعي تام من رموز الصهيونية والمبشرين بها وحاملي لوائها. فقد عبر عن هذه المخاوف أحد هاعام وحاييم نحمان بياليك، و ج. هـ. برينر، وأوري تسفي جرينبرج، كل منهم بطريقته الخاصة، وبأسلوبه البسيط والصادق. وحتى عندما كانت هذه المخاوف مصحوبة بآمال مسيحية خيالية، فإنها من الداخل استمرت كما هي. وحتى في أجواء إسرائيل ذات السيادة والسطوة، التي تدفق إليها الناس من كل حدب وصوب، والتي أصبحت موضع إعجاب القريب والبعيد (وبصراحة البعيد معجب بها أكثر من القريب)، لا تزال هذه المخاوف تطفو على السطح، وتتخلل الأجواء. والآن كما كانت من قبل. وبعبارة أخرى، فإن هذه المخاوف لا تنشأ فقط عن موقف صعب أو إشكالي. فهي تتغذى من نفس طبقات الروح اليهودية المتتالية والمؤمنة بنفسها، والتي تبدأ بالتشاؤم الخافت والمصيري وتنتهي بالجلد الذاتي المازوشي.
وعلى هذا فإنني أستطيع أن أضع ثقتي الراسخة (والمطلقة) حول مستقبل إسرائيل وطول عمرها (سواء استمر إطلاق هذا الاسم عليها، مشحوناً بالدلالات التقليدية الإلهية، أو تحول إلى اسم يلائم تصورات الدولة القومية)، بالاعتماد على تحليل متماسك ومقارن للبيانات المتعلقة بإمكاناتها العسكرية والسياسية والعلمية والتكنولوجية والاقتصادية، وبناء على خلفية من بيئتها الجيوسياسية والبشرية والثقافية. ولكن ثقتي تنبع من تقدير جوهر هذا المستقبل ــ أو بعبارة أخرى، تقدير الطابع الجوهري للدولة في المستقبل؛ أو بعبارة أخرى، تقدير التغيرات الأساسية التي تلحق بالمعايير والقيم وهو شيء لا مفر منه ومتوقع على الدوام.
إن اللغة العبرية ما كانت لتعود إلى الحياة كلغة كاملة لولا تنقيتها من قداستها الأسطورية، وتحويلها من “اللغة المقدسة” إلى لغة علمانية يومية (ربما هي أكثر اللغات علمانية على الإطلاق). وعلى نحو مماثل، قد تكون دولة إسرائيل على يقين من مستقبلها إلى الحد الذي يؤهلها للتخلص من يهوديتها، وبالتالي من التهويد الديمقراطي الذي يمزقها، ومن أنماط التفكير والعمل الروتينية التي طبعت “الدولة اليهودية” (أو “دولة اليهود”). وفي العالم وبين الأمم، ستجد دولة مثل هذه مكانها ــ ليس بشكل دولة تجمعات أو جماعة، بل بشكل دولة قومية إقليمية وعلمانية وديمقراطية، مكتفية ذاتيا، وقابلة للحياة وقادرة على حكم ذاتها.
وبعد ذلك تكون السماء هي آخر حدودنا..
أهارون أمير Aharon Amir مؤلف وشاعر ومترجم من تل أبيب. توفي عام 2008. ترجم إلى العبرية أعمال إرنست همنغواي، وويليام فوكنر، وجان بول سارتر، وإدموند بيرك. ويعتبر من المبشرين بدولة قومية كنعانية لادينية على تراب فلسطين.
عن مجلة أزور. رقم 6، شتاء 1999