أقطاب دولة القانون.. ثلاث عيون على الخارج

لماذا يركز اقطاب ائتلاف دولة القانون (يعنينا منهم الآن كبار المسؤولين الحكوميين) على شؤون غير عراقية، ويتجنبون الخوض في شؤون البلاد المكلفين برعاية مصالح أبنائها.. والتي سيحاسبون على أي إخفاق لهم فيها؟ أمامي الآن بيان رسمي صدر الخميس عن مكتب نائب رئيس الوزراء د. حسين الشهرستاني بشأن لقائه مع الممثل الأممي ببغداد نيكولاي ملادينوف.

ثلاثة ارباع البيان ينقل عن الشهرستاني تركيزه على مسار التطورات في ملف إيران النووي، وعلى تداعيات الأزمة السورية، فيما تجنب الحديث عن أي شأن عراقي، مع أن وجود الممثل الأممي ببغداد يأتي أساسا لتقديم الدعم الذي تطلبه حكومة العراق في شؤونها الداخلية ومشاكلها العالقة مع الكويت. ولأنه بهذه الصفة، ينقل عنه البيان (في آخر فقرة منه) اهتمامه الحصري بقضايا عراقية تتعلق بالمتظاهرين والمعتقلين والإجراءات الحكومية بشأنهم.

هذا الموقف الغريب، الذي كان يحلو لنظام صدام ممارسته طوال ثلاثة عقود إشغالا للناس عما يعانون من كوارث، مشابه أيضا لموقف رئيس الوزراء نوري المالكي مع أوباما في زيارته لواشنطن مؤخرا، فبحسب ما كشف عنه د. أحمد الجلبي قبل أيام على الشاشات، فإن اللقاء بينهما (الذي قال إنه استمر 17 دقيقة) بدأ بدعوة أوباما للمالكي بأن يحسّن علاقاته مع شركائه في الحكومة، فيما كان رئيس وزراء العراق يرد عليه بالقول إنه يستطيع أن يساعد الإدارة الامريكية في الملفين السوري والإيراني.. ويعود أوباما ليكرر عليه دعوته لتحسين علاقاته مع شركاء الوطن، متجاهلا عرضه..

ولأنني أعلم أن الجلبي يطرح نفسه منذ مدة غير قصيرة بديلا للمالكي، فقد قدرت أنه ربما يكون في بعض تفاصيل كلامه بعض المبالغة، لا سيما في أجواء تمهيدية لانتخابات، لكن السياق العام لأداء المالكي وحلقته الضيقة يؤكد- للأسف- كلام 

الجلبي؛ فمثل هذا الموقف الغريب ليس بجديد عليه، إذ اتبعه مرات كثيرة من قبل ولا سيما في التمهيد لولايتيه، وآخر مثال على ذلك كلماته الأسبوعية التي يوجهها للرأي العام، والتي اقتصرت أوائلها على شؤون غير عراقية، حتى ضجت مواقع التواصل الاجتماعي وأحاديث السياسيين والرأي العام استغرابا من جدوى توجيه هذه الكلمات التي لا تعني شيئا للناس الذين ينتظرون حلولا لمشكلات داخلية أمنية وسياسية واقتصادية تتفاقم في وطنهم على نحو غير مسبوق.. حتى اضطر الرجل (اضطرارا على ما يبدو) للحديث مؤخرا في شواغل عراقية، ولكنها كانت للأسف دعايات انتخابية ومماحكات وتصفية حسابات مع خصوم سياسيين، ناسيا نصيحة الأفريقي الأصل الذي لم يعد يهمه سوى أمريكا ومصالحها في العالم.

صحيح أنه مطلوب، بل ضروري جدا، من الحكومات في كل العالم بشخوص كبار مسؤوليها أن يتابعوا الملفات الدولية، وأن يحسّنوا من علاقات بلدانهم مع جيرانها وما يليهم، وينفتحوا على الدول المهمة في العالم سياسيا واقتصاديا، وينسقوا معها أمنيا واستثماريا وثقافيا ورياضيا..وأن يبنوا علاقات متوازنة تحقق مصالح بلدانهم ورفاه شعوبهم، ويحصلوا لها على الدعم في كل مجال، وأن يكونوا جزءا من المنظومة الدولية… لكن ذلك كله لا يكون على حساب المهمة الأولى الداخلية، إذ لا قيمة لأي نجاح خارجي مقابل فشل ذريع داخلي.. في وقت يعلم فيه الجميع أن التركيز المبالغ فيه على قضايا خارجية يكون في الغالب هروبا إلى الأمام من حل إشكالات داخلية، إن لم يكن تشتيتا للرأي العام واستغفالا له.

والأدهى من ذلك كله أن هذا التركيز على شؤون خارجية لم يدفع بعلاقات العراق العربية والإقليمية والدولية بالشكل المتوقع بعد الأداء الداخلي السيئ عقب النجاح بخطوة إنهاء صفحة الاحتلال العسكري الأمريكي. فباستثناء التحسن الكبير في العلاقات مع الكويت، وهو أمر يحسب لهذه الحكومة، ما زالت العلاقات مع المحيط العربي غير متقدمة وتحكم بعضها عقد من الطرفين يتعلق بعضها بالموقف من إيران وأزمة سوريا وملفات داخلية، وعادت الحكومة أحيانا لسياسة النظام السابق باستخدام النفط العراقي للحصول على بعض المكاسب المعنوية من هذه الدولة وتلك، كما أن علاقاتها تشنجت مع تركيا على نحو بالغ السوء، وكان يمكن تدارك ذلك بالحكمة ومنع التصدعات الداخلية مع الشركاء من أن تخرج عن السيطرة، وإن شهدت العلاقات مع تركيا مؤخرا بعض الانفراج، وهو ما يحدث دائما قبيل كل انتخابات تشريعية للأسف، وكأنه هدف انتخابي وليس استراتيجية تجاه دول مركزية بالمنطقة تربطها بالعراق رابطة الحبل السري لجهة مياه الرافدين وخطوط نقل النفط في أقل تقدير.

ربما يكون اضطرار غالبية أعضاء الطبقة السياسية لقضاء جزء كبير من أعمارهم في هذين البلدين تحديدا (إيران وسوريا)، سببا في هذا الاهتمام المبالغ.. وهو موقف يشكرهم عليه النظامان الإيراني والسوري بلا شك، ولكن لينصتوا جيدا لحديث أكبر مسؤول محلي بمحافظة بابل (والمفاجئ أنه من دولة القانون عينها) أمام البرلمان في جلسته الطارئة الخميس، الذي قضى الأسبوعين الماضيين منهمكا في متابعة شؤون أبناء محافظته الغارقين في المياه والأوحال.. ليستمعوا لحديث محافظ بابل المقتضب الذي حذر فيها الطبقة السياسية من أن الناس الساخطين والذين ينتظرون حلولا لمشاكلهم، لن يسكتوا بعد الآن. وقال إنه شخّص في مواقفهم ردود أفعال غير مسبوقة، وأن على السياسيين جميعا أن يفكروا في تجنب ما لا تحمد عقباه.. وعسى أن تصل الرسالة لأقطاب ائتلافه وغيرهم قبل فوات الأوان، خصوصا أن الموجة المطرية الأخيرة، كما كرر الكثيرون في الجلسة، ليست – لسوء الحظ- سوى بداية لقادم أعظم.

*كاتب وصحفي عراقي

إقرأ أيضا