أهل الماء.. حكاية في تداخل العوالم

حينما كنت أمسح وجه الماء، ألتقي بأهله دون ميعاد, وهم لا يفرون مني، بل يرمقونني بنظرات ناعمة ندية، إنْ تسَاءلت تساءلوا بصمت، وحين يغادرون فبسكينة وطمأنينة تارة، وأخرى بحركة أُكروباتية شهية جميلة لكن دون أن يكسروا لي قلباً، أجل دون أن يكسروا لي قلباً، وأنا منكسر القلب!
كان الماء متصلا ببعضه، يُذهب بالحزن كل الحزن، فهو جميل بنقاوته وصفائه وصدقه حتى أنه ليكشف ستر أهله دون قصد منه، ولكن برضا منهم. وهو يمتد ملء البصر، حتى أن الشمس لتشرق منه وتغرب فيه، ولست أترك تلألؤ الشمس على وجه الماء حين الغروب: فهي تشرق وتغيب بكرم. إن ذهب جمال النهار، جاء جمال الليل بسكونه وسكينته، وحينها تعج الحياة لمن كان الليل موعد عطائه ونشاطه.
المشهد يذكرني بكلمات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، ولكنني أتساءل إن كان الشاعر قد رأى المشهد بنفسه:
يا سيدي يا عراق الأرض يا وطنا
تبقى بمرآة عين الله تكتحل
لم تشرق الشمس إلاَّ من مشارقه
ولم تغب عنه إلاَّ وهي تبتهل
أتذكر حينما كنا صغارا، كنا نلقي السنارة في الماء وما يحصل أننا نرى أهل الماء بكل وضوح حتى أننا نرفع السنارة حينما لا نرى السمكة التي نريد؛ فبكثرة الخيارات يتشوش الاختيار ويضطرب! السمكة تهب لنا نفسها بسخاء وكأننا في الجنة التي وعد بها الرب الجميل! كان كل ما حولنا عبارة عن روضة من الرياض، و جنة من الجنان لم يُخلق مثلها في البلاد كل البلاد. ما أقوله هو الحقيقة، فقط الحقيقة! وكانت أمي تقول: (خذ حاجتك من أهل الماء ولا تزد في الطلب؛ لأنها ستفيض عليك كرماً ما لا يحيط به سد، ولا يفوقه مد، ولا ينقصه جَزْر).
وحينما كانت أمي تغسل أطباق الطعام في الشريعة، يجتمع أهل الماء ليأخذوا البقايا التي لامستها الأيدي التي طبخته بالتسبيح، والحمد، والتهليل وكأن الدنيا كلها محراب للصلاة عند أمي فمطبخها أفخر ما فيه قِدر يكتسي كل يوم بحلة من سواد جديد! لماذا لا يفرون؟ كنت أتساءل دوماً عن ذلك، فعلمت بأنهم أمِنَوا جانب أمي، وتسالم الاثنان بصدق الكلمة وأداء الأمانة؛ وكأن أهل الماء قد عاشوا مع أهل الأرض ولم يفصل بينهم فاصل إلا الخصائص التي خصَّ بها الرب الجميل كل أحد. قالت لي ذات يوم: (إنَّ أهل الماء يجودون بأنفسهم لك طوعاً دون كره، ولست بحاجة لإرهابهم وترويعهم، فحينما تأخذ منهم، فهم لا يمنون عليك، ولا يتصدقون عليك، ولا يحتاطون منك مستقبلاً، ولا يخططون للهروب أو التهرب مما تريده منهم، هم صادقون أمينون).
لم أكن أفهم ما تقول، فلم أزل إلا صغيراً قد يتذاكى بالسؤال!
ذات يوم، رأيت أهل الماء يذودون عن أنفسهم لاستنشاق هواء الحياة،  وبعضهم طفا على سطح الماء دون حراك وكأنهم قطع من فلين، ما الذي يجري لأهل الماء، وماذا يحصل عندهم: هل أعلنوها حربا فيما بينهم، أم أن في الأمر ما لا أعرف؟ كالعادة، كانت أمي هي الملاذ الأوحد؛ فلم أكن أرى غيرها، روحي لها الفداء، قلت لها:
–    يبدو أن أهل الماء قد تقاتلوا، وهم بحاجة إلى من يصلح فيما بينهم، ويعيد الأمر إلى سابق عهده: الأمن والأمان، والسلم والسلام؟!
–    بعد صمت وتأمل لم يدم طويلاً، قالت:
–    لا، يا بني، هم لم يتقاتلوا ولكن هناك من قتلهم، وهو ليس من أهلهم، بل من أهلنا.
–    لم أفهم ما قالته، ولكنها عاودت القول:
–    هناك من أعلنها حرباً على أهل الماء ببضع قطرات من السُم، نعم السُم، ولا يهتم لشيء، بل المهم وكل المهم عنده أن يملأ جيبه بالمال وبطنه بالطعام والشراب، وليكن ما يكن.
تساءلت حينها في نفسي: كيف يمكن لبضعة قطرات أن تهلك كل أهل الماء، وكيف لها أن تصارع هذا الكائن العظيم: الماء؟ بعد ذلك أفصحتُ لها عمّا خالجني ودار في خلدي، فقالت لي:
–    يوجد وحش من بني البشر استعمل السُم فقتل كل أهل الماء: صغيرهم و كبيرهم؛ ما يحل أكله وما يُحرم، فالمهم وكل المهم عنده، كما قلت لك، أن يملأ جيبه وبطنه وليمت كل الكون.
لم أر عجباً أعجب من ذلك، ولا جرماً أجرم من ذلك، كيف يمكن قتل من يعطيك كله ولو لم تعطه شيئاً؟ وكيف يمكن لأحد أن يكسر وجه مرآة الماء؟! نعم، الإنسان ممكن أن يكون وحشاً بشعاً أبشع من الوحوش الضارية العابثة! ويا للعجب، حتى الوحش يأخذ كفايته ويذهب!
أبحرت في صمت عميق، ومن ثم غصت فيه، ولم أفق إلا بقهقهة عالية كتلك التي يحدثها أمير فاتح فرح بتوسعة رقعة مملكته على جماجم الأبرياء، ودموع الأطفال، وحرقة النساء، وقهر الرجال، وهو يحدث صاحبه عن حجم الربح الكثير الذي تحقق اليوم بعد الحرب الطاحنة على أهل الماء. شق طريقه المبتل بالدماء، ومزق كل الأفق بدنسه وعهره، وبقيت بحسرتي أرقب أهل الماء، وكيف أن بعضهم ما زال يتلوَّى، وآخرون استسلموا لألمهم وصاروا أسرى حركة الماء تأخذهم حيث كانت وجهتها، وغيرهم فاغري أفواههم بكل اتساعها، بحثا عن هواء مذاب بالماء لا عن ماء مذاب فيه هواء مرَّ بمنخرَي الجزار. لِمَ يحدث هذا وأهل الماء لا يجيدون لغة الحرب، ولا يحملون السلاح؟! لم يكن بيدي فعل شيء سوى الألم والحسرة. كم كنت حزيناً. وكم صرخ أهل الماء، وكم كان لهم من كلام، حكايات، قصص، حقائق، ولكن: للقلب لغة لا يفهمها العقل، وسلطان لا يحتمله الجسد: هو بيت الله!
كنت قد علمت، فيما بعد، أن الأشياء التي تتعرض للخيانة تثأر لنفسها، ولو بعد حين! فقد هاجَرَ أهلُ الماء، مُجْبَرين على ترك الوطن، وبقى بعض أهل الأرض يلهثون ركضاً وراء سمكة قد يثخنونها بالجراح؛ فهي لم تعد تهب نفسها!
* كاتب عراقي

إقرأ أيضا