ارتبطت الذاكرة بوجود الإنسان، وتفرّد بها عن سائر المخلوقات، إنتاجا ودرسا، لأن الذاكرة درس مديد لمن يريد التعلّم والتذكّر والتأمل، الذاكرة تشير الى تاريخ ما.. إنسان فرد، مجموعة، شعب، أمة، حقب زمنية في أمكنة متعددة، الأسوياء منّا نحن معشر البشر الذين نعيش فضاء الانسانية نتجاور طوعا وكراهية، نتقرب وننأى، نحب ونكره، نحارب ونسالم، معادلات لا تنتهي يمرّ بها الانسان والمجتمع، وبين كل هذا تكون الذاكرة، فردية أم جمعية كأسفنجة تمتص كل لحظة ونأمة في \”الزمنكان\” لتسجلها في دفتر \”الوارد والصادر\” في مشوار العمر.
***
الذاكرة البشرية لا يمكن التعويل عليها في حقول كثيرة كالإقتصاد مثلا، لان القوم في هذا الحقل عمليون جدا ولهم حكمة تقول \”سجل سيء خير من ذاكرة باشطة\”، والناس في حقول مجاورة لا تريد ذاكرة، بل تريد حسابا وكتابا.
الذاكرة البشرية صنو الإنسان الخصب، لأنه لا ينتصب إلا بطوقي نجاة الحياة البشرية السوية، ذاكرة ونسيان، وكلا وجهي العملة يحتاجهما البشر لمواصلة الحياة.
***
البعض يصرُّ على العيش في الذاكرة، يجترّ منها ما يريد، في اللحظة والمكان المناسبين له، وآخر يريد إمحاء الذاكرة، الذاكرة سوط الضمير إذا كانت محملة بالرزايا والفضائح والمكائد، والنسيان داء لمن أدمن العيش في مقامة الماضي، الماضي زمن إنتهى، والحاضر زمن نعيشه والمستقبل أفق نحدسه ونعيش لاجله، أين تكون الذاكرة مفيدة.. وكيف يكون النسيان فعّالا؟
***
في المشهد الثقافي العراقي بمعناه العام \”الثقافة بوصفها حقلا واسعا لإنتاج الجمال والمعرفة والرياضة والفنون والآداب والإعلام .. الخ\”، تجتاحنا حمّى التصريح الصاخب بالِسير والتواريخ والبطولات لأناس جلّ ما وصلوا اليه أن يكونوا على قدر كبير من المكر والدهاء وربما الوهم الكبير، والرهان على النسيان الجمعي، بوصف الناس مصابون بذاكرة مثقوبة لا ُتعمر طويلا، ولا تقدّم كشوفات حساب نهائية لهؤلاء، فلقد استثمروا فضاء \”التيه\” وباشروا ببناء يوتوبيات من صنع خيالهم القاصر وأوهامهم ، في محاولة بائسة لإقناع ما يمكن إقناعه ، بوجود هؤلاء الكائنات أحياء على قيد الذاكرة والنسيان معا.
محنة حقيقية أن يكون سوق \”التاريخ\” قد أقفل بواباته وأسدل ستائره أمام أوهام هؤلاء \”الباعة\” في بازار اللعب على الحاضر برسم الماضي، والإثنين معا برسم المجهول.. والذي يتاجرون بصياغته كمستقبل قابل للتحقيق على مقاسات أكاذيبهم.
***
بعد إنفتاح عالم الفكر على مناخات وآفاق واسعة بحكم ثورة الاتصالات الحديثة.. فقد غدا كل شيء بضاعة بمعناها التداولي، أي أن هناك بائع وهناك طوابير من المشترين، وهناك ُمرسل وملايين ينتظرون الرسالة… وفي السوق \”سوق المجتمع\” حيث يعرض الجميع بضاعتهم وينادي أصحاب الأصوات العالية، ويشير أصحاب العضلات المفتولة على بضائعهم بشكل مخصوص.. يصيحون بحناجر صفراء.. ويطلقون ذباب عقولهم الفاسدة على موائد الفكر الحيّ ليفسدوا بذلك نعمة الأنتاج والتلقي، الإمتاع والمؤانسة..
***
يحلو للكثيرين أن يقتطعوا فرصة العمر كلّه لا لعمل بنّاء، ولا لمراجعة نقدية للماضي والحاضر معا، بل ان هؤلاء المعاقين بالرؤيا يسعون الى بسط خطاب جديد وهو \”البكاء على الإطلال\” وإستدرار العواطف بخطاب مظلومية على ماضٍ ولىّ زمانه ورجاله، وهذا الخطاب ساهم بشكل فعّال في شيوع نمط من الحنين السلبي للعيش في مقامة الماضي.
ماضٍ كالح الملامح، لا تستطيع ايّة ذاكرة أن تطمئن اليه بحكم سطوة \”المخيال الشعبي\” والروايات الكاذبة والرواة الكذبة.
والمظلومية مرض إجتماعي ينشط في حقل غياب المنهج العلمي في درس الذاكرة والتاريخ .. والإنحياز الى الحياة المعاقة.. الحياة التي تعاني من نقص واضح في فهم جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر، الذاكرة والنسيان.
لقد بات خطاب المظلومية يعيش متنكرا بين الذاكرة العاطلة وصنوها النسيان، والغرض الأكيد هو الحنين الى عودة حياة السلطان، الدكتاتور وأعوانه من بطانة الماضي والسيادة ثانية على حاضر رمينا أنقاضه وراءنا ومضينا.
***
الوشاية… كمقصلة
يحدثنا تاريخ العَسس، أن المهمة الرئيسة لهؤلاء الناس هي الوشاية، الوشاية التي تعادل الموت تماما، أو الأقصاء/التهميش إن لم يكن الموت. هكذا نتائج كانت مبعث غبطة السلاطين من وشاتهم، والولاة من عسسهم، والشرطة من جواسيسهم، والدولة المبرقعة بالحداثة من مدخلات الحداثة ومخرجاتها، وهي تفخر بطابور طويل من الاجهزة المخابراتية والإستخارتية والشرطوية والأمنية بشقيها الواقعي والافتراضي، حتى غدا عمل الواشي هو المحرك الجديد لحماية وديمومة هكذا أنظمة وسلاطين، فأصبحت العلوم الاجتماعية مطيّة لدوائر المخابرات لمعرفة هواجس الناس وتطلعاتهم، وكذا أصبحت النكات والملفوظات المجانية والبريئة للناس في الشوارع والأسواق، والزفرات والشهقات بمثابة مقياس آخر لجس نبض الشعوب وإستطلاع الرأي فيها، وقد أصبحت مهمة \”الواشي\” بمرور الزمن وتطور المجتمعات مهمة \”وطنية!!\” بإمتياز لما تمثله من مجس إستشعار وجرس انذار لكل نيّة مسبقة للمساس في حياة االسلاطين والإنظمة، والدول والحكومات فاسدها وصالحها.
وفي سياحة تاريخية سنجد \”العسس\” أو \”الوشاة\” طبقة من الناس لهم إستعداد شخصي لامتهان هذه المهنة، يغذيها طبيعة العائلة والبيئة والزمن الذين ينتمون اليه.
من خلال الواشي السريّ.. سنجد أن مهمة التنصت واستجلاب الأسرار أمر مألوف جدا يمارسه المكلفون بهذه الوظيفة بمهنية وإنضباط عاليين، وتزداد كفاءة هؤلاء \”الوشاة\” كلّما أمعنوا في إرتداء الاقنعة في الزمان والوسط المناسبين.
ولكن لماذا نتحسس من العسس إذا كان دورهم ووظيفتهم وأكل خبزهم \”الحلال\” يقع في دائرة \”الهمس\”.. لماذا ننأى من العسس بجلودنا ونطعمهم خير بضاعة لتطمين سلاطينهم بأن الدولة بخير، والمواطن بطران ومتذمر دائما ؟
لماذا نقسّم الناس أصنافا \”قتلة، جزارين، ضحايا… وما بينهما واش\”
الواشي مهنة مقلقة حقا لأنه لا يقل عن الجلاد شراسة، وقطعا لا ينتعش سوقه إلا بوجود عطب في الذاكرة ونسيان مطبق.. الواشي يراهن على غفلة العقول .. والسلاطين تعيش على وفرة \” الوشاة\”!!
والأغرب في الأمر هو وجود \”الواشي\” من شريحة المثقفين، وهو أمر مقلق وبشكل جديّ، ليس لان المثقف من سلالة نازلة من سماء الملائكة، بل لأن المثقف أخطر الناس توافراً على موهبة تبرير أعماله، فهو لم يكن \”واشيا\” فقط بل ومبررا ومسوقا لعمل الوشاية بوصفه عملا إنسانيا ونخبويا وحضاريا الخ.. وفي كلّ الاحوال هناك ذاكرة ميتة يرافقها ضمير عاطل عن العمل.
الواشي يتنعش كثيرا بغياب الذاكرة الفعّالة وسيادة النسيان، لإنه قادر على العمل بجد ومثابرة وهمّة في كلّ زمان.
***
كم مرة حاولت أن أتجاوز النظر الى الوراء ممتثلا لقول مأثور مفاده \”لا تلتفت الى الوراء ابدا\” ولكن هذا الشعور بدأ بالتهالك حالما شعرت انني في الهزيع الأخير من َسنة كنت أتنفسها وأعيشها، بحلوها ومرّها، الرغبة غلبت الوصية فقررت الإلتفات الى الوراء بحب ودون غضب كما يريد فيلسوف آخر \”التفت وراءك بغضب\”، لماذا لا التفت بحب وأقرأ ما فاتني في أوراق الرزنامة.. أقلّب شجرة عمري وأسجل على لحائها إعترافاتي.
النظر الى الوراء يعني أنك ذاهب الى الأمام \” المجهول\”، بعدّة كافية من الضمير غير الموخوز والقلب غير المثقوب والقامة غير الملتوية .. النظر الى الوراء يجعلنا نتعلم درس التذّكر الفعال وصولا الى النسيان الأكثر بهاءً في حياة الكائن البشري \”السوي\”، نتذكر كي نرمم ذوتنا بالحب وننسى كي تبقى حدقات عيوننا شاخصة الى المستقبل \”الأمام\”.
كلما فتحت صندوق أيامي وبعثرت ذكرياتي.. لم أجرؤ على شطب واحدة من أخطائي وذنوبي وحماقاتي.. نعم أتذكرها جميعا ولم أغلق عليها صندوقي، لن اشمّع قلبي كأيّ قاتل محترف، لا أستطيع غرس شجرة آثامي وسقيها بدم بارد.. أقرأ هفواتي ببراءة دائمة وأعيد قراءتها بندم كي لا تنعقد الأخطاء قلادة على عنقي، ولا تنسج سيرة الماضي قصة لا نهاية لها، أنا كاتب أخطائي وماحيها ، وأنا مرتكب الحماقات وغاسل قلبي منها.
أريد أن أدوّن في ذاكرتي قاموسا للنقاء والبهاء، أنحت في بيت عقلي أصدقاء من عسل ، وأزين جيد ضميري بمجسات ناصعة التحسس.
هكذا أتصور يومي الجديد خالٍ من لبلاب الرياء وبشاعة الإنسان التي أودع ضميرة وقلبه في خان بعيد!
أريد النظر للماضي بجرأة واضحة ليكون حاضري واحة خضراء لبلوغ الأمام \” المستقبل \” بأقل الخسائر الإنسانية، بروح باسلة، لا تلهث وراء صبواتها، ولا تنحني لمقاسات جاهزة.
أريد أن أرى قامتي في مرآة لا أخجل منها أبدا.
اني أحاول تخطي الوراء للوصول الى \”أمام\” يليق بالإنسان الحر.. صانع المستقبل.. صانع السلام.. مالك نفسه في رؤية متوازنة بين ماضٍ مضى، وحاضر يلفظ ليله لمستقبل اليوم الجديد.. هي دورة إستحالة الكائن الفعّال في الزمان والمكان.
لا وجه لنسخ وإستنساخ الزمن، ولاحياة للعبيد لانهم لا يستطيعون رؤية الأشياء والكائنات وصيرورة التاريخ إلا عبر أغلالهم وأحلام ساداتهم.