فوارق شاسعة جدا بين زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو الى كركوك بدافع الاستفزاز والتحدي للحكومة المركزية في آب الماضي، وبين زيارته الاخيرة الى بغداد. في آب الماضي كان الموقف التركي قويا على الارض وقويا على الصعيد الدبلوماسي ايضا، كان الاتراك حينها قاب قوسين او ادنى من الانخراط في عمل عسكري ضد سوريا، رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان لم يكن يستمع لاحد، كيف وهو القيادي في حزب العدالة والتنمية بثوب عثماني وبغطاء اخواني يمتد من البوابة الشرقية للوطن العربي الى البوابة الغربية. كان العثمانيون الجدد يتحدثون بلغة الواثق كثيرا من نفسه، ويتعالون عن النزول من ابراجهم العاجية مثلا والتعاطي مع العراق على انه دولة مستقلة، اما اليوم وبعد المتغيرات الاخيرة التي حصلت على الصعيد الميداني في سوريا، متغيرات الاحداث في مصر وتراجع اسهم الاخوان في العديد من بلدان العالم بما في ذلك في تركيا نفسها بعد احداث ميدان التقسيم، كذلك التفاهمات الغربية التي حصلت بين القوى الكبرى وبين الجانب الايراني، مع كل تلك الاحداث فإن اوغلوا هذه المرة جاء الى بغداد متحدثا بلغة شفافة ومختلفة كثيرا عما دأب عليه القياديون الاتراك منذ الاقتتال الداخلي في سوريا، حرص على زيارة النجف وحرص من هناك على توجيه خطاب يداعب كثيرا مشاعر من استفزهم حتى الامس القريب.
كانت تجربة حزب العدالة والتنمية منذ بداياتها وحتى سنوات قليلة ماضية تثير اعجاب العدو والصديق، بشيء من التوزان في المواقف، استطاع الاتراك بقيادة حزب العدالة والتنمية ان يمسكوا العصى من الوسط ويمدوا اذرعهم الى مختلف المحاور في المنطقة. وهذه قوة السياسية التركية في تلك الفترة والتي رفعت من اسهمها بين اللاعبين الاقليميين وكذلك امام القوى الدولية الكبرى، ورغم كل ما يقال عن التأثير الايراني في العراق فإن أردوغان وليس أيّ مسؤول ايراني هو من حظي بكلمة شهيرة له امام البرلمان العراقي عام 2011، كان يلقي خطبته تحت قبة البرلمان العراقي ويصفّق له الشيعة قبل السنة، والاكراد قبل العرب. لكن وبعد سلسلة من التطورات السياسية التي حصلت في الشرق الاوسط بشكل عام والملف السوري بشكل خاص فإن تركيا اضطرت للكشف عن مواقفها الحقيقية، وتخلّت عن ذلك الخطاب المعتدل الذي عرف عنها. لبس أردوغان عباءته العثمانية، وامسك بعصى الاخوان ولوّح الى الجميع بأداء فروض الطاعة الى السلطنة العثمانية، ذلك الوجه العثماني اخفى الوجوه التركية الاخرى ووضعها في محور على حساب محور اخر، تركيا فقدت توازنها وفقدت اهم الادوار التي كانت تراهن على ادائها امام الغرب وهو دور الوسطية والاعتدال ومد اليد لجميع الاطراف. الزيارة الاخيرة لأوغلوا ما هي الا اعادة حسابات تركية ليس مع العراق فقط، بل مع الكثير من بلدان المنطقة. هذه الرغبة التركية يفترض ان تستثمر بشكل جيد من قبل الساسة العراقيين وان لا نتحول نحن في العراق الى مجرد سوق استهلاكية للأتراك ليس الا. ليس غريبا في السياسة ان يتم تصفير المشكلات او اعادة النظر في اليات معالجاتها بين بلدان المنطقة، والاتراك طالما حملوا ذلك الشعار في فترات سابقة، لكن الذكيّ من يبحث له عن دور لائق به بين زحام اللاعبين الجدد والتنسيق مع الجانب التركي قد يصب في هذا الاطار.
gamalksn@hotmail.com