صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

إزاحة منطق الصراع لصالح أوهام الهويات

اهتم الفكر الليبرالي بمفهوم الخير في حقله الدلالي العام، عبر مصاديقه المباشرة والمادية في حياة الانسان. وقد حاول الفكر الليبرالي إزاحة مفهوم الخير الديني عبر ازاحات الحداثة المتكررة في الحضارة الحديثة، الى نطاق الضمير الشخصي الذي هو نطاق الدين الخاص به وغير المسموح له بالخروج عن هذا النطاق، عبر علمنة الدولة والسياسة ومن ثم الحياة العامة في مجتمعات هذه الحضارة. وإذا نجحت الليبرالية الغربية والحداثة الاوربية في تكريس هذا الواقع الاجتماعي والسياسي المتحضر والحديث في نطاقها المكاني – الاوربي، فأنها ركزت في تعاملها خارج هذا النطاق المكاني والافق الثقافي الذي نشأت وتكرست فيه على تضادات مفهوم الخير الديني، بينها وبين الشرق الاسلامي، وخصوصاً عبر مفهوم الاستشراق الامبريالي. وفي داخل النطاق المكاني للشرق الاسلامي سعت بقوة الى تكريس هذا التضاد بين مفهوم الخير الديني ذاته، عبر تكريس المسميات الدينية والمذهبية والطائفية التي تتشكل عبرها هويات هذا الشرق العابر باتجاه أزمنته الماضية، بحثاً عن تجذير أكثر أصالة في هوياته. وبالقدر الذي ادى الانشغال عن مفهوم الخير الديني والهويات المتشكلة عبره بالنسبة للفكر الليبرالي الغربي الى الانشغال او التفرغ والسعي نحو بناء الذات –الفرد، المجتمع- الدولة وبناء السعادة المادية فأن انشغال الشرق بالهويات الدينية وليس انشغاله حتى بمفهوم الخير الديني ذاته الذي تزخر به حياته الروحية وتاريخه الديني وثراء المعنى نحو الخير والفضيلة فيه قد ادى هذا الانشغال الى ترك او نسيان مجتمعه وانسانه وبناء ذاته في توليف حضارته، وهو انشغال جاء في احد صوره واسبابه بأنه استجابة غير واعية لمخطط الهويات وافتراضاته الليبرالية في خارطة مواجهات الغرب والشرق وشكلت في حقيقته مدا ثقافياً طال منطقتنا وازاح منطق الصراع ومفهومه المادي لصالح تحديات الهويات او اوهام تلك التحديات. لقد الفت ثقافتنا ذاتها امام تضادات اجتماعية مشغولة بقوة بتأثير التطورات الحداثوية والعلمانية والمغلفة بالرؤية الليبرالية -الاميركية في عصر العولمة حول الخير والضمير والدين وهي مناخات الهوية والثقافية فأنكفأت ثقافتنا وحضارتنا على ذاتها التي استشعرت ازاحتها المقصودة عن مجالات السلطة والهيمنة المتشكلة عبر هذه المناخات بانسجامها وتجاوبها بقناعة الضمير الداخلي لأفرادها، كثقافات تنتمي الى حضارات تتقليدية وهي حضارات وجدت نفسها على حافات الطرد لها من الفضاءات الثقافية والاجتماعية الخاصة بها، مما عزز لديها قناعة المواجهة والتصدي والتعبير عن هذه الازاحات او الطرد لها في ميادين الحياة العامة بأنها محاولات في الغزو الثقافي الذي تجده خصماً ومنافساً قوياً لها في عالمها الخاص بها والموروث لها بفعل او نتيجة التاريخ ومنطق الحق الطبيعي لها. ثم التأسيس المبكر لمفاهيمها وهويتها في هذا العالم الخاص بها. واذا كانت صور هذا الغزو الحالّة في الاستعمار القديم قد انحلت بفعل المقاومة والجهاد المسلح فأن ما يؤرق ثقافتنا التقليدية هو صورة الغزو الحالّة في الثقافة. وهكذا نجد توافقاً في فهم الصراع وابعاده بين الثقافة الليبرالية الحديثة والثقافة التقليدية في منطقتنا. انه صراع ثقافات ومن ثم فهو صراع هويات. وبتعبير اوضح صراع ديانات لدى الفهم الليبرالي الحديث والفهم الثقافي الديني التقليدي لطبيعة هذا الصراع، بل ان كلا الفهمين او المدركين الليبرالي الحديث والثقافي التقليدي، همشا مصطلح الصراع ليحل محله مصطلح التحدي الليبرالي ومصطلح الغزو الثقافي. وقد انتهى مصطلح التحدي الى مصطلح الصدام ومفهومه الليبرالي بفعل القوة التي تمتلكها الليبرالية الحديثة ونظامها السياسي، فجاءت مقولة صدام الحضارات مثلما صنع مفهوم الغزو الثقافي لتلغي صراع الحاجات المادية والاساسية المعيشية وتضع الهويات وازماتها المفتعلة على حافة صدامها الاخير في مقولة نهاية التاريخ التي تشي او تتنبأ بالقدر البائس للهويات او هويات الهامش الذي يتمثل به العالم كله سوى المركز – الولايات المتحدة الامريكية، وهو خلاصة عصر العولمة الذي يعد عصر التطبيقات الكلية في انبعاثات الهويات وتعبيرات حقوق الاقليات والاثنيات التي تبنتها الامبريالية الامريكية والثقافية الليبرالية فيها تحت مقولة التعددية الثقافية* وهي انبعاثات وتعبيرات كانت قد مهدت لها علوم الاثنوغرافيا والاثنولوجيا ومن ثم الانتربولوجيا واذا كانت نهاياتها او تطوراتها – تلك العلوم – تتطابق مع العصر الامبريالي الامريكي فأن بدايتها كانت تتزامن مع عصر وفتوحات الاستعمار القديم قبل قرن من الزمان وعبر منطلق الحداثة فيها تحولت الهوية الى ثقافة او الهويات الى ثقافات متعددة تكتمل فيها استعدادات المواجهة والصراع او التحديات غير المطمئنة الى نهاياتها، وبهذا القدر اسهمت تلك العلوم وبموازاة الليبرالية في تحديث الصراع ومفهومه او تحريفه في اتجاهاته نحو الهوية الدينية والمذهبية الطائفية والهوية القومية والعرقية والاثنية.

*صدر كتاب في اميركا، للمؤلف الاميريكي كاميليا تحت عنوان \”التعددية الثقافية\”، وترجم الى العربية. الؤلف يعبر في الكتاب عن رؤيا ليبرالية في منهجة التعددية الثقافية كضرورة معاصرة في رسم السياسات الدولية.

** كاتب عراقي

إقرأ أيضا