يحسب بعضهم أنّ اللغة العربية التي يقرأ أو يكتب بها في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي وكافة نواحي الحياة هي اللغة العربية الفصحى وفي مقابلها ثمة اللهجات العامية. والحقيقة، فلا علاقة لهذه اللغة بالفصحى إلا على سبيل المجاز فهي لا تشبه مثلا لغة امرؤ القيس والمتنبي والجاحظ من القدماء، ولا لغة طه حسين والجواهري في عصرنا. ولهذا يمكن أن نطلق على هذه اللغة \”الوسيطة\” وليست الفصحى.
من هذا الفرق بين اللغة الفصحى القديمة التي تلاشت، وبين اللغة الوسيطة التي نستعملها اليوم، تنشأ إشكالات عديدة يحاول بعضهم حلها على طريقة أستاذنا القدير الراحل مصطفى جواد، والتي يلخصها شعاره واسم برنامجه الإذاعي الشهير \”قل، ولا تقل\” فيزيد الأمور تعقيدا على تعقيد. إن محاولة تصحيح الأخطاء الموجودة فعلا في لغتنا الوسيطة بالاعتماد على قواعد قديمة وشبه منقرضة من اللغة الفصحى المتلاشية قد لا تكون مفيدة وذات تأثير إنْ لم تعتمد التبسيط والتسهيل على الكاتبين والناطقين المعاصرين وتأخذ بنظر الاعتبار تعمق الفروق بين اللغة المنطوقة \”العامية\” والمكتوبة \”الوسيطة\”.
منذ بضعة أشهر، بدأت تقديم تجربة شخصية في هذا الصدد على صفحتي الشخصية على \”فيسبوك\” وقد تجمعت عليها عشرات الفوائد التي تهدف إلى مواجهة إشكالات العربية المعاصرة كما أرى وأعتقد، ثم جمعت المائة الأولى من هذه الفوائد ووزعت منها نسخاً إلكترونية على صديقات وأصدقاء الصفحة ولا تزال التجربة مستمرة حتى الآن. وقد قرأت قبل فترة سلسلة مقالات على هذا المنوال التصحيحي، ولكن على طريقة \”قل ولا تقل\” نشرها الزميل الكاتب د. حسين سرمك حسن، على بعض صفحات الانترنيت. احتوت تلك المقالات على مواجيز لبعض آراء أستاذينا القديرين في اللغة العربية، د. إبراهيم الوائلي ود. ونعمة رحيم العزاوي، تحت عنوان \”من أغلاطنا ككتاب\”، ورغم أنَّ (على الرغم من أن) هذه المبادرة مفيدة وضرورية في وقتنا الحاضر، يشكر عليها الكاتب، ولكنها تكرر في حالات كثيرة قواعد غير عملية ومعقدة لا تأخذ بنظر الاعتبار التطور الطبيعي للغة في مجرى الحياة، ولا تأخذ بنظر الاعتبار البحثي أو العملي التطورات الجديدة والكشوف الحقيقية في العلوم اللسانية الحديثة وفقه اللغة والعلامات والدلالات، ما يجعل بعضها تعقد أمور اللغة على الدارس والكاتب والناطق بدلا من أن تسهلها وتبسطها عليه.
لزيادة الفائدة نستعرض هنا بعض الأمثلة على تلك التصحيحات التي قدمها السيد حسن في مواجيزه مع الإشارة إلى أمثلة أخرى لا ضرورة لتكريسها أو بعثها من جديد أو تلك المثيرة للجدال والتي تقبل عدة أوجه.
لنبدأ بعبارة \”بالرغم\” أو \”رغم أن\” فصاحب المواجيز يخطِّئ هاتين العبارتين نقلا عن الأستاذين الوائلي والعزاوي، ولكن، ورغم أنه محق من الناحية القواعدية النحوية القديمة المستعادة، غير أنّ هاتين العبارتين وغيرهما كُثر طرأ عليهما ما يمكن أن يطرأ من ظواهر التغيير والتطور والنحت والاختزال والانحراف الدلالي والثبوت على أكثر من معنى، وخروج الحال عن مقتضى الظاهر، وغير ذلك من طوارئ وظواهر لغوية وبلاغية معروفة للمتخصصين.
إن بعضهم يتعامل مع اللغة العربية المكتوبة وكأننا ورثناها يوم أمس كاملة وتامة عن سوق الوراقين في بغداد العباسية، وليس نتاجاً لعملية تفاعل وتطور دام قرونا، ويستتبع ذلك تخطئة من يحاول أن يماشي سياقات التطور والتغيير في الحياة الحقيقية وكأنه ارتكب جرما أو إثما. إن كلمة \”رغم\” تعني في أصلها التراب، وعبارة \”وأنفه راغم\” أي وأنفه في التراب، ويقال هذا المعنى في عبارة أخرى \”حتف أنفه\” أو \”رغم أنفه\” وكلها عبارات تحمل معنى القسر والإجبار. ولتسهيل اللغة على الناس وتخليصها من حبائل وتقعيرات \”الإكليروس اللغوي\”، بعبارة المعجمي العراقي الراحل هادي العلوي، جرت الألسن في عصرنا الحاضر باستعمال \”رغم أنّ\” أو \”برغم ذلك\”.. الخ، ولم يعد من الضروري استعمال عبارة \”على الرغم من أن\” المركبة والثقيلة، ولكن مَن يريد استعمالها من ذوي الاختصاص أو الحافظة الجيدة فله ذلك دون تخطئة الآخرين وتأثيمهم لغويا إن استعملوا الصيغة الأخرى!
هناك بعض الأخطاء الصغيرة والقليلة الحدوث يرتكبها بعضهم لبعده عن عالم الكتابة، أو هي نتاج التحويل المباشر وغير المقصود الذي يقوم به بعضهم للهجة العامة التي يفكر بها إلى نوع من الفصحى التي يكتب بها، وقد تكون بتأثير استعمال اللغات الأجنبية وكثرة القراءة للنصوص المترجمة بشكل سيء. هذه الأخطاء تخص تركيب الجمل، والتي غالبا ما يساعدنا السياق والمنطق والاعتياد على التغلب عليها. من ذلك مثلا، يتوقف د.حسين سرمك حسن وعلى طريقته في التصحيح والتخطئة عند المثال التالي فيكتب (قولك \”هذا ليس فقط السبب الأول في المشكلة\” غلط، والصواب هو \”هذا ليس السبب الأول في المشكلة فقط\”. وفقط أصلها قط ودخلت عليها الفاء للتحلية لتصبح \”فقط\”، وهي هنا بمعنى حسب وكفى، ومكانها نهاية الجملة، ولا تأتي بعد الأفعال أبدا). والكاتب محق في وضع \”فقط\” في نهاية الجملة لأنها تجري مجرى الحال أو الظروف الزمكانية ويكون مكانها نهاية الجملة فنقول \”وصل الفارس منهكا\”، ولكن لا ينبغي منع الكتاب أو الشعراء أو غيرهم من البدء بها لأسباب فنية وجمالية. سيلاحظ القارئ حتماً أن وضع الحال في بداية الجملة ستكون له جماليته الخاصة والعالية ونبرته وموسيقاه المختلفة، لنقرأ الجملة بالتركيب الآخر \”منهكاً وصل الفارس\”، هنا، سيكون التركيز والضوء المركزي مسلطين على حالة الفارس وليس على الفاعل أو الفعل، أما حالة \”فقط\”، فيمكننا الاتفاق مع الكاتب على عدم صوابية وضعها في وسط التركيب اللغوي لتلافي الركاكة البلاغية وتعقيد الجملة، ونضيف إلى ذلك أنها يمكن أن تأتي في بداية الجملة لضرورات فنية معينة كهذا المثال (فقط، حين تأتي الحبيبةُ يشتعلُ القلبُ شوقا) قارن مع قولنا (حين تأتي الحبيبة يشتعل القلب شوقا فقط) وستجد الفرق!
وهذا مثال آخر، كتب الأستاذ حسن (قولك \”تصرّف فلان وفق القاعدة الفلانية\” غلط، والصواب أن تقول \”على وفق القاعدة الفلانية\”. وهنا أضاف الكاتب حرف الجر \”على\” الذي لا مبرر له فزاد من تعقيد الجملة دون فائدة، أما المبرر فقد يكون وجود شاهد قديم عليه أراد الكاتب أو مَن نقل عنهما جعله قاعدة لا مبرر لها في عصرنا، وهذا احتمال ضعيف لأن الفعل \”تصرَّف\” فعل مزيد بالتاء وتضعيف الراء وهو متعد بحرف الجر الباء غالبا وليس بعلى كقولنا \”تصرف خالد براتبه بذكاء\” أما المجرد منه \”صَرَفَ\” فهو متعد بذاته ولا يحتاج إلى حرف جر.
وفي تصويب آخر يكتب (قولك: \”سوف يأتي الآن\” أو \”سوف لا يأتي\” أو \”سوف لن يأتي\” غلط لأنه لا يجوز جمع السين أو سوف بـ الآن أو لا أو لن. والصواب أن تقول \”سوف يأتي\” و\”لا يأتي\” و\”لن يأتي\”.)، وهذا المثال يحتمل المجيء بسبب التحول اللاإرادي من العامية إلى الوسيطة خلال الكتابة، وتحديدا من قولهم (راح يجي هسه – راح يجيء هذه الساعة) وجملة \”سوف يأتي الآن\” ثقيلة أولا، وغير صحيحة ثانيا، لأن \”سوف\” حرف تسويف للمستقبل البعيد، وكان الأفضل أن ينصح الكاتب قارئه باستعمال سين التسويف وهي للمستقبل القريب \”سيأتي الآن\” على أساس أن القرب غير محدد فقد يكون لدقائق بعد \”الآن\” وقد يكون لأيام أو استعمال المضارع \”يأتي الآن\” مع أنه سيكون ثقيلا وسياق العبارة شبه مبتور.
من الأمثلة على تصحيحات الزميل الكاتب قوله (قولك \”يركز على\” غلط، والصواب \”يركز في\”. ولا تستعمل على إلا مع الفعل \”ارتكز\”).وهناك عشرات الأمثلة من هذا النوع مما يعتبره القدماء غلطا على اعتبار نوع الفعل إن كان لازما أو متعديا بمفرده أو متعديا بحرف جر.. والواقع فهذه القاعدة أصبحت من النوافل وغير ضرورية كثيرا، فما الفرق بلاغة أو نحوا أو توصيلا للمعنى بين قولنا \”يركز على\” و\”يركز في\”؟
من الأمثلة على تصحيحات صاحب المواجيز حسن قوله (قولك \”يركز على\” غلط، والصواب \”يركز في\”. ولا تستعمل على إلا مع الفعل \”ارتكز\”). وهناك عشرات الأمثلة من هذا النوع مما يعتبره القدماء غلطا على اعتبار نوع الفعل إن كان لازما أو متعديا بمفرده أو متعديا بحرف جر.. والواقع فهذه القاعدة أصبحت من النوافل وغير الضروري، فما الفرق بلاغة أو نحوا أو توصيلا للمعنى بين قولنا \”يركز على\” و\”يركز في\”؟
وأخيرا يأتي صاحب المواجيز بمثال على تصحيح ما يجمعه بعضهم جمع تكسير مع أن الواجب وفق القاعدة جمعه جمع مؤنث سالم وهو هنا على حق فهو يقول (قولك: \”النوايا الحسنة\” غلط، والصواب أن تقول: \”النيّات الحسنة\”، لأن النيّة تجمع على نيّات). وهذا خطأ صغير وشائع كثيرا فليأخذ بتصحيحه من يريد من ذوي الحافظة الجيدة والتقيد بقواعد الكتابة ولنتقبل ممن يكتبه بشكل آخر لا يحدث خللا في المعنى، وهناك بعض الأمثلة من هذا الغرار لا يمكن معها التصحيح فلو قلنا \”الناحيات\” أو \”الجاريات\” بدلا من \”النواحي\” أو \”الجواري\” جمعا للناحية والجارية وهما مؤنث منتهي بتاء التأنيث ينبغي جمعه وفق القاعدة جمع مؤنث سالم، لما أخذ بتصحيحنا أحد، ثم أن الجواري لفظ دارج وهو من صِيغ منتهى الجموع (لاحظ أننا قلنا صِيغ وليس صياغات لأن الأخيرة جمع صياغة وليست جمع صِيغة) وقد ورد في القرآن بهذه الصيغة ومثلها كثير.
أختم بتوجيه الشكر مكررا للزميل د. حسين سرمك حسن على إتاحته هذه الفرصة لتسليط بعض الضوء على هذا الموضوع المهم والحساس على أمل العودة إليه مستقبلا بشكل أسهب، وعلى ما بذله ويبذله من جهود.
* كاتب عراقي