في مقدمة مجموعة مقالاتها التي صدرت في العام 1968 بعنوان “الناس في الأوقات المظلمة”، كتبت حنة آريندت: “حتى في أكثر الأوقات حلكة، يكون لنا الحق في توقع بعض الضوء”. واليوم، في زمننا المظلم هذا، تجري قراءة أعمال آريندت مع حس جديد بالضرورة، بالتحديد لأن أعمالها توفر مثل هذا الضوء.
درسَت آريندت، المولودة في ألمانيا في العام 1906، مع الفلاسفة البارزين في عصرها، لكنها هربت من البلد في العام 1933، وعاشت لبعض الوقت في باريس، ثم انتقلت لاحقاً للعيش في الولايات المتحدة. وهي تشتهر بأعمالها الرئيسية المهمة، ومنها “الحالة الإنسانية”، و”عن العنف”، و”الحقيقة والسياسة”، و”أصول التوليتارية”، وخاصة “آيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر”، الذي كان حصيلة لتغطيتها لمحاكمة النازي آدولف آيخمان في إسرائيل، لصالح مجلة “نيويوركر”.
كانت آريندت مدركة بشكل مذهل لبعضٍ من أعمق المشكلات والتعقيدات والميول الخطِرة في الحياة السياسية المعاصرة، والتي ما يزال الكثير منها ماثلاً معنا اليوم. وعندما تحدثت عن “الأوقات المظلمة”، وحذرت من “المواعظ، الأخلاقية أو غيرها، التي تعمل -تحت ذريعة التمسك بالحقائق القديمة- على الحط من قدر كل الحقائق بسخافة خرقاء”، فإننا لا نستمع فقط إلى نقد لأهوال الاستبدادية في القرن العشرين، وإنما نسمع أيضاً تحذيراً من القوى التي تهيمن على مشهد السياسة الأميركية والأوروبية اليوم.
كانت آريندت واحدة من أوائل المفكرين السياسيين الرئيسيين في التحذير من أن الأعداد دائمة الارتفاع لعديمي الجنسية الذين بلا دولة واللاجئين سوف تظل دائماً مشكلة عصية على الحل. وتثير واحدة من أولى مقالات أريندت، بعنوان “نحن اللاجئين” التي كتبت في العام 1943، استناداً إلى تجاربها الشخصية مع فقدان الجنسية، مجموعة من الأسئلة الأساسية. وفيها، تصف بطريقة نابضة بالحياة ما يعنيه أن يفقد المرء منزله، ولغته، ووظيفته، وتنهي المقالة بخلاصات أكثر عمومية عن التداعيات السياسية للظاهرة الجماعية الجديدة -“خلق” جموع من الناس المجبرين على مغادرة ديارهم وبلدانهم، فتكتب: “يمثل اللاجئون الذين يُقادون من بلد إلى بلد الطليعة الجديدة لشعوبهم… لقد تحولت كياسة الشعوب الأوروبية إلى مِزق عندما -ولأنها- سمحت بأن يتعرض أكثر أعضائها ضعفاً للإقصاء والاضطهاد”.
عندما كتبت أريندت هذا، لم تكن تعرف كم ستكون ملاحظاتها ذات صلة في العام 2018. وقد أدى كل حدث سياسي تقريباً خلال السنوات المائة الماضية إلى خلق فئات جديدة من اللاجئين، ويبدو أنها ليس ثمة نهاية في الأفق. وهناك الآن ملايين الناس الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين مع القليل من الأمل في أنهم سيتمكنون من العودة إلى ديارهم، أو حتى العثور على وطن جديد.
في عملها الصادر في العام 1951، “أصول التوليتارية”، كتبت أريندت عن اللاجئين: “ليست محنة المجردين من الحقوق أنهم مجردون من الحياة، والحرية، والسعي إلى السعادة، أو المساواة أمام القانون وحرية الرأي فحسب، وإنما أنهم لا يعودون منتمين إلى أي مجتمع على الإطلاق”. ويترتب على فقدان المجتمع طرد شعب من الإنسانية نفسها. وسوف تكون التماسات الحقوق الإنسانية المجردة بلا معنى ما لم تكن هناك مؤسسات فعالة لضمان تطبيق هذه الحقوق. ولعل الحق الأكثر أساسية هو “الحق في الحصول على الحقوق”.
من خلال إدامة التركيز على تعقب أهوال التوليتارية، وإدراك أن الغاية من الهيمنة المطلقة هو تدمير العفوية البشرية، والفردية، والتعددية، استكشفت أريندت ما الذي يعنيه تماماً عيش الحياة البشرية في مجتمع سياسي والشروع في شيء جديد -ما وصفته بأنه طبيعتنا. كما سعت أيضاً إلى استكشاف التهديدات الموجهة إلى نزاهة السياسة -ذلك النوع من السياسية التي يترتب على الأفراد فيها أن يواجهوا بعضهم البعض كأنداد سياسيين، وأن يتناقشوا ويتصرفوا معاً- وهي نوع من السياسة التي يمكن أن يزداد فيها التمكين وتزدهر فيها الحرية من دون عنف.
تبدو مقالة آريندت، “الحقيقة والسياسة”، التي نشرت في العام 1967، وكأنها كُتبت بالأمس أيضاً. وما يزال تحليلها للكذب المنهجي والخطر الذي يشكله على الحقائق الواقعية مهماً بشكل ملح. فلأن الحقائق الواقعية منوطة بشروطها، والتي ربما كانت، بالتالي، خلاف ما هي، فإن من السهل جداً تدمير الحقيقة الواقعية واستبدالها بـ”حقائق بديلة”.
في “حقائق السياسة”، كتبت آريندت: “إن حرية الرأي تكون مهزلة ما لم يتم ضمان وجود المعلومات الواقعية وأن لا تكون الحقائق نفسها محل نزاع”. ولسوء الحظ، فإن أحد أنجح التقنيات لطمس الفرق بين الحقيقة الواقعية والباطل هو الزعم بأن أي شيء مما تدعى حقيقة واقعية هي مجرد رأي آخر فحسب -وهو شيء نسمعه يومياً تقريباً من إدارة ترامب. وما حدث بوضوح صارخ في الأنظمة الشمولية يُمارسه الآن ساسة بارزون بنجاح كبير –خلق عالم خيالي من “الحقائق البديلة”.
حسب آريندت، ثمة خطر أكبر أيضاً: “ليست نتيجة الاستبدال المستمر والكلي للحقيقة الواقعية بالأكاذيب هو أن الأكاذيب سوفَ تُقبل الآن كحقائق، وأن يتم عرض الحقيقة كأكاذيب؛ وإنما النتيجة أن الحس الذي نقيم عليه مواقفنا في العالم الحقيقي -وتصنيف الحقيقة في مقابل الزيف، هو من بين الوسائل العقلية لتحقيق هذه الغاية- يتعرض للتدمير”. وتصبح إمكانيات الكذب بلا حدود وقليلاً ما تتعرض للمواجهة بين الحين والآخر.
يشعر العديد من الليبراليين بالحيرة من أنه عندما يظهر بحثهم في الحقيقة أن كذبة ما هي كذبة بكل وضوح، فإن الناس يبدون غير مكترثين ولا معنيين. لكن آريندت فهمت الطريقة التي تعمل بها الدعاية حقاً. وكتبت: “إن ما يُقنع الجماهير ليس الحقائق، ولا حتى الحقائق المختلقة، وإنما هو تماسك وثبات النظام الذي يُفترض أنها جزء منه”.
يتطلع الناس الذين يشعرون بأنهم مهملون ومنسيون إلى سرد –حتى لو كان سرداً متخيلاً- والذي يمكن أن يعطي معنى للقلق الذي يختبرونه، ويعِد بنوع من الخلاص. ويتمتع القائد الاستبدادي بميزات هائلة عن طريق خلق واستغلال قضية يريد الناس تصديقها. وعادة ما يكون سرد قصة خيالية تعِد بحل مشاكل أكثر قبولاً من الحقائق والحجج “المعقولة”.
لم تكن آريندت متشائمة أو مبشرة بالخراب. وقد وضعت في مواجهة تحذيراتها من المخاطر السياسية مفهوماً مفصلاً للنزاهة السياسية. فبسبب طبيعتنا، أو قدرتنا على العمل، يمكننا أن نبدأ دائماً شيئاً جديداً. وكانت الثيمة الأعمق في أطروحات أريندت هي الحاجة إلى أن نتحمل المسؤولية عن حيواتنا السياسية.
حذرت آريندت من الخضوع لإغواء العدمية والتشاؤم أو اللامبالاة. وكانت جريئة في وصفها للكذب، والتحايل، وخداع الذات، واصطناع الصور ومحاولة الذين في السلطة تدمير التمييز بين الحقيقة والباطل.
يوفر دفاع آريندت عن النزاهة السياسية معياراً نقدياً حاسماً للحكم على الوضع الذي يجد العديد منا أنفسهم فيه اليوم؛ حيث تتضاءل فرص المشاركة، والعمل المتناغم والانخراط في حوار أصيل مع نظرائنا. وعلينا أن نقاوم إغراء الخروج من السياسة وافتراض عدم إمكانية فعل شيء في وجه كل البشاعة والخداع والفساد التي تشهدها هذه الأوقات. كان مشروع آريندت طوال حياتها هو مواجهة وفهم العتمة التي تلف عصرنا، من دون فقدان البصيرة حول إمكانية التسامي والتنوير. وينبغي أن يكون هذا مشروعنا نحن أيضاً.
ريتشارد جيه. بيرنستاين: أستاذة الفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية، ومؤلفة كتاب: “لماذا نقرأ حنا آريندت الآن”، وقد نشر المقال تحت عنوان: The Illuminations of Hannah Arendt في صحيفة (نيويورك تايمز) بتاريخ 20 حزيران يونيو الماضي، وترجمته صحيفة “الغد” الأردنية.