صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

إعادة اختراع العجلة

قبل آلاف السنين، قدم أجدادنا في أرض ما بين النهرين اختراعهم الفريد، العجلة، الذي أصبح مرتكزا لمجمل التقدم الذي حققته البشرية. لولا العجلة لبقي الإنسان حبيس قوته العضلية المجردة.

 

لكن أحدا في هذا الزمن ما عاد يتذكر ذلك الاختراع المنسي والنائم في بطون الكتب، فهو ينتمي الى زمن غابر تلته أزمان عدة حتى وصلنا زمن الفضاء والتكنولوجيا والحروب بالنيابة. لكن اختراع العجلة تحول الى مثل يضرب لكل من تكون الحلول ماثلة أمام عينيه، لكنه لا يراها فيصر على (إعادة اختراع العجلة).

 

والإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتراكم لديه الخبرة ليصنع منها خبرة جديدة. كل الكائنات الأخرى تكرر التجربة نفسها إلى ما لا نهاية فتعجز عن استنباط مغزى جديد منها. فالعصافير ما زالت تبني أعشاشها منذ الأزل بالطريقة نفسها، وتهاجر من منطقة إلى أخرى في الموعد نفسه، وتتعرض لاصطياد الصياد بالطريقة نفسها. لكن هذا الكائن العاقل أيضا يعجز أحيانا عن الاستفادة من التجارب الماثلة أمام عينيه، بل وأحيانا من تجاربه ذاتها، فيكرر مرة إثر أخرى محاولاته البائسة والفاشلة في إعادة اختراع العجلة، إما عن جهل او غباء او احساس مفرط بتضخم الذات.

 

كم مرة جرت أمام أعيننا، نحن العراقيين، محاولات إعادة اختراع العجلة؟ هي أكثر من أن تحصى، لكننا، ومع كل محاولة من هذا النوع، نخطو خطوة إلى وراء حتى وصلنا ما نحن فيه اليوم. لا خطر أكبر من العجز عن التعلم من التجارب ولا أغبى من الاستعلاء على تجارب الآخرين.

 

ثمة سؤال يدور في الذهن على الدوام: لماذا لا تتعلم النخب السياسية من تجاربها او تجارب غيرها فتصر على إعادة اختراع العجلة لتوقعنا في كل مرة في مصيبة جديدة؟ أعرف أننا لا نشكل رقما مهما في حسابات الكثير منهم، لكنهم لا يتعظون بتجاربهم حتى من أجل الابقاء على مناصبهم وامتيازاتهم الهائلة. هذا مسؤول فشل مرة واثنتين، لكنه يصر على التشبث بالفشل. وتلك خطة ثبت عجزها عن حل مشكلة ما، لم الاصرار على تكرارها وبالتالي تكرار فشلها؟

 

لدينا معضلة كبرى اصطلح على تسميتها بالمصالحة الوطنية، ونظرا لأهميتها المفصلية خصص لها وزير وعقدت من أجلها مؤتمرات رنانة وصرفت باسمها المليارات. لكن أحدا لم يجرؤ على الاجابة عن السؤال المفصلي فيها: مع من نتصالح؟ وكلما تعذرت الاجابة عن هذا السؤال ازداد انقسام المجتمع الذي كان يريد أن يتصالح في يوم ما فأضحى على مشارف التقسيم.

 

وبعد أن ضاعت الموصل ودخلت الأنبار وصلاح الدين وسهل نينوى وغيرها في اتون حرب حقيقية عادت بالأميركيين مجددا الى المشهد، توارى الرد على السؤال وراء هدير المدافع وقصف الطائرات وشحن النفوس بأردأ ما يمكن أن تشحن به من بغضاء وحقد مسموم على الآخر. لم يعد أحد يفكر في أن الآخر المختلف هو أيضا ضحية مصالح ومنافع يطمح اليها من يقوده الى المحرقة. لقد دخل الكل في هذه المحرقة التي توقدها مصالح دولية واقليمية ومحلية لا ترى فرقا بين هذا وذاك، ولا يهمها إن كان هذا الشاب القتيل شيعيا أم سنيا، عربيا أم كرديا أم تركمانيا، مسلما أم مسيحيا أم ايزديا. كلنا حطب هذه المحرقة وكلنا سواء في هذه المحنة الكبرى.

 

سيكون اعادة اختراع للعجلة لو قلنا ان المشهد يتطلب عزل عناصر داعش عن كل ما عداها بأية وسيلة كانت، ويفترض بالسياسيين أن يعرفوا هذه الوسائل.

إقرأ أيضا