تيرنس مالك، هو الاسم الأكثر خصوصية في أروقة السينما الأمريكية المعاصرة. إنه الأكثر جدلا، الأكثر تعرضا للهجوم وللاحتفال بذات الوقت. وحده، وبعُدّة إرثها شرقي صرف، فهو يقف بالضد من المؤسسة الهوليودية التي كانت قد حددت ملامح تعتقدها نهائية لشكل الفيلم الأمريكي. كل أفلام \”مالك\” هي، بضرورة الشكل والمضمون، تمارس نوعا من الاحتجاج الوجودي على تلك المؤسسة. ومما لا شك فيه أن الكثير من الأفلام الأمريكية حاولت فعل الاحتجاج هذا، لكن خصوصية احتجاج \”مالك\” تنبع من انه يستخدم كل ممكنات تلك المؤسسة لتهشيم كرامتها. وأكثر تلك الممكنات خصوصية كان مفهوم: نجم شباك التذاكر.
ولد تيرنس مالك سنة 1946 لأبوين سوريين آشوريين مهاجرين إلى \”ارض الأحلام\” وفي ولاية تكساس تحديدا. درس الفلسفة تحت إشراف الأكاديمي والفيلسوف المعاصر ستانلي كافييل في جامعة هارفارد العريقة، ليتخرج منها سنة 1965. وليكمل بحثه في جامعة أكسفورد مختصا بالفلسفة الألمانية، تحديدا مارتن هيدغر. وبعد صراع وخلاف جذري مع أستاذه غيلبرت ريلي يترك أكسفورد في 1969 دون أن يحصل على الدكتوراه. لينشر مباشرة ترجمته لكتاب هيدغر المركزي: جوهر الأسباب.
في فيلمه الأخير \”إلى الأعاجيب\” يمسك مالك بيدنا، برقة المتصوف، وبرغبة أصيلة في فعل المشاركة؛ لـيدخلنا إلى واحد من عوالمه الأكثر خصوصية؛ علاقته بالمرأة. وكما عند شاعر فانه وعبر إيقاع بصري حُر غير ملتزم بأي شرط مسبق، يهمس لنا بأنه رجل قد عاش وعشق. بهدوء يذيب بداخلنا ضرورات القص التقليدي مؤكدا أن السينما ليست حكاية فقط! وبدقة يعمل على سقط متاع المشهد، لا المشهد كما ننتظره ومن فيلم أمريكي علي وجه الخصوص.
بعد دراسته للفلسفة وتدريسها، يبدأ \”مالك\” رحلته السينمائية في 1973 عبر فيلم \”البقاع المقيتة\” وهو الفيلم الذي جعل منه سؤال هوليود الأكثر جدلاً. الكل انتظر منه فيلماً آخر، تحديدا إن المنتجين والاستوديوهات في هوليود كانوا قد بدؤوا بالتنافس على إنتاج مشروعه القادم. لكنه يفضل الصمت وينتظر خمس سنوات متتالية قبل أن ينجز \”أيام الجنة – 1978\” وهو واحد من تحف السينما الأمريكية المعاصرة. بعد \”أيام الجنة\” يصمت مالك لعشرين سنة متواصلة. بل يمارس فعل الاختفاء الكامل، بلا أثر. ليتحول من سؤال إلى لغز هوليود الأكثر غموضاً. سنة 1998 يعود لينجز واحدا من أهم أفلام الحرب في تاريخ السينما \”خيط أحمر رفيع\” عن رواية لجيمس جونيس. وفي 2005 ينتج رؤياه عن اكتشاف أمريكا عبر فيلم \”العالم الجديد\”. وبالتأكيد فان حصول فيلمه \”شجرة الحياة – 2011\” على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، كان التقدير الأكثر تأخراً لواحدة من أهم العبقريات السينمائية المعاصرة.
الفيلم السينمائي عند \”تيرنس مالك\” أشبه برحلة تختلط فيها أوراق العمر ببعضها بعضا. وهذا ما يحدث تماماً في فيلم \”إلى الأعاجيب\” إنها رحلة ليست للأرشفة، ولا المداولة، إنها رغبة بالالتحام بالذات عبر شريط سينمائي. وهي بالضرورة رحلة تهملُ عن قصد، أو بدونه، كل العُدّة التقليدية لصناعة سينما شباك النجم. الممثل الرئيس في \”إلى الأعاجيب\” هو بِن أفليك، وهو النجم الراسخ في سماء هوليود ممثلا ومخرجاً. إلا أننا نجد مالك يطوع، بمهارة، مفهوم \”النجم الاستهلاكي\” عبر تحويله إلى موصل ايجابي لكل حياة الشخصية التي يؤديها. وغني عن القول ان كل النجوم الذين عملوا تحت إشراف مالك قد أدّوا أفضل أدوارهم على الإطلاق.
هل هي مصادفة أن يكون آخر مقال يكتبه عرّاب النقد السينمائي العالمي \”روجر ايربت\” كان عن فيلم \”إلى الأعاجيب\”؟ نُشر بعد ثلاثة أيام من وفاة \”ايريت\” وجاء فيه: في أي فيلم تقليدي، ستحاك الحبكة حول الشخصيات لتتضح لنا دوافعها بشكل اكبر. لكن عند مالك، وهو من أكثر صناع الفيلم روحانية، يُعلَنُ عُري من نوع خاص، عُري لرجل غير قادر على كتم رؤياه.