لم تحدثني سراب المندلية عن يوم جديد تمر به البصرة، كعادتها كلما راسلتني على فيسبوك، ولم تبدأ كلامها كالعادة بالسلام المستفيض على الطريقة العراقية، ولا بالسؤال عن العائلة التي لم ترها مرة واحدة، بل دخلت في الموضوع مباشرة وقالت لي بحرقة جارفة: إنهم يقتلون الرياضة.
فكانت كلماتها محطة بدء اليوم الأول، لماذا ومن يقتل الرياضة؟
للشباب واليافعين محطات غير بريئة يفرغون فيها طاقاتهم، الا الرياضة فهي محطة لتفريغ الطاقة بعيدا عن كل الأفكار السابقة عن الخطيئة وعن المحرمات وعن أحلام التابو المروعة اللذيذة. فلمّ يقتلون الرياضة؟
لعل السؤال ينبغي أن يكون: كيف قٌتل محمد عباس القادم من هولندا ليدرب منتخب كربلاء لكرة القدم دون أجر؟
وأي رياضة هذه؟ وقد أضحت مغناطيس يجذب القتلة الى الملاعب، فيفجروا أجسادهم وأجساد اللاعبين والجمهور، ويحرقوا الأرض الترابية المجدبة، إلا من كرة يتيمة يتلهى بها فتيان المحلة، وبخاصة من لا يملكون منهم ثمن الإنتساب الى النوادي.
في مقاطع التاريخ السيئة، يُمسي كل جميل محرم، أما القُبح فيصبح سيد الأشياء وأفصح الأحكام وأول وآخر المحطات، وهذا هو الذي يحصل في منطقتنا الملتهبة بنفطها الكريه البغيض، والمشوية بربيعها الديمقراطي المعمّد بالدم .
فالجمهور لم يصوت لبرواز حسين لأنها كردية لا تهتم بانتمائها العراقي، ولم يستدرك أحد بالقول: لكن صوتها جميل، ولتكن من تكون.
والجمهور لم يدافع عن محمد عباس مع أنه نذر نفسه لخدمة شعبه دون مقابل، فقُتل بلا تردد وقد يضيع دمه في زحمة الدماء المتلاحقة .
والجمهور لا يقبل أن يتأمل في انتمائه الأكبر، وهو مصّرعلى الانتماءات الأصغر فالأصغر حتى نصل الى أن الجار يقول \”لا يهمني أن يحترق بيت جاري مادامت مطفأتي جاهزة\”.
والجمهور يبدأ يومه بانتظار يوم أحسن دون أن يعمل بجد ليكون اليوم التالي يوما أحسن، بل هو يمضي ماشيا في ظلال الجدران داعيا أن ينقذه من محنته محافظ جديد يعلن نفسه خادما للمدينة.
والجمهور يرفع شعارا فاسدا (والشعار هو ما يتلفع به الانسان فيلاصق جسده حسب لسان العرب). مضمون الشعار عليّ أن أستفيد ( وبالعراقي يقولون أستفاد !!). لكن الجمهور لا ينظر كيف يستفيد، ومن ستضر هذه الفائدة، وهكذا تصبح الفائدة شخصانية ويغيب الجمع خلف مصالح أفراده.
الجمهور لم يعد لديه سوى الرياضة يلوذ بها من وسخ الكهرباء الغائبة، ومن غربة الأرصفة التي سلبها أصحاب المحلات واعتبروها جزءا (مغصوبا) من مساحة استفادتهم، ومن دنس الشوارع التي تغسلها مياه المجاري الآسنة وهي تفيض عن أنابيبها التالفة، ومن قبح البيوت التي تخنقها أتربة بلد الرافدين المتصحر المجدب.
كل هذا وكثيرغيره يدفع بالجمهور نفسه الذي تحدثنا عنه الى أحضان الرياضة، وحين تغص به الملاعب، يرفض منطق القتل بلا عنوان أن يسمح له بلذة الهروب من خطاياه (وهو شبه بريء منها)، فينهال عليه القتلة من كل اتجاه ويوسعوه تفجيرا وتفخيخا وتلغيما، حتى يصيبه اليأس من هذه الرياضة المُرة، فيبدأ من جديد يوما آخر، ماشيا في ظلال الجدران، مستبعدا كل جميل ومستحليا كل القباحات.