حول كتاب أن تقرأ لوليتا في طهران
أن تكون (غير ذي علاقة) بشيء مما يدو حولك، فهو أمر يدعو إلى الانفصال عن المأساة التي تعيشها أمتك في ظرف تاريخي عصيب جدا – من سوء الحظ أن يكون وجودك قد تصادف فيه. وهو أمر يدعو إلى قراءة الروايات العالمية، والبحث عن تفسيرات إنسانية وثقافية واجتماعية ووجودية لهذا الذي يحصل. وهو أخيرا أمر يدعو إلى الكتابة. وهو ما قامت به آذر نفيسي في كتابها (أن تقرأ لوليتا في طهران).
والكتاب كما هو بيّن من العنوان حديث عن خطورة أن تقرأ الأدب العالمي والأمريكي تحديدا، والمنطوي على محظور ديني كبير، في دولة إسلامية كإيران، متشددة في مواجهتها للعالم الرأسمالي الغربي والأمريكي بكل قيمه الثقافية والأدبية.
وعلى المستوى الرمزي للكتاب، فهو محاولة لسحب التمثيل الروائي على الواقع الراهن في الجمهورية الإسلامية. فما يفعله النظام الإسلامي يشبه ما يقوم به بطل رواية نابوكوف مع لوليتا الجميلة القاصر فهو يتملكها جسديا ونفسيا، ويمنعها من التحرر والحياة.
والكتاب يتكلم عن نفيسي التي تصادف عودتها من دراستها في أمريكا، والعمل في جامعة طهران مع نجاح الثورة الإسلامية، وما عاشته من تضييق على حريتها الشخصية والفكرية، وكيف بدأت تواجه جيلا من الطلبة المعبأين آيديولوجيا وأخلاقيا بطريقة لا تسمح لهم بتذوق الأدب الغربي والرواية الغربية التي وجدوا فيها تعبيرا عن انحلال الغرب ومشكلاته الأخلاقية، وإدانة صريحة لمنظومته السياسية والثقافية جاءت على لسان كتّابهم. ذلك كله جعل نفيسي تستقيل من الجامعة وتتفرغ لصف من الطالبات المختارات الراغبات في الحرية، والرافضات لما يجري على الأرض.
وتقوم نفيسي بإعطاء بناتها الخمس درسا أسبوعيا في بيتها يكون امتدادا لدروسها السابقة في الجامعة، ولكن من غير رقابة، أو محاورات جانبية آيديولوجية تلغي، أو تسيء للدور الإنساني للأدب العظيم وأثره في إدانة الظلم والقسوة ودوره في تحرير الإنسان والتقرب به نحو سعادته وكماله المنشودين.
المهم أن آذر نفيسي تقدم لنا طريقة ممتعة جدا في قراءة الروايات العالمية والاستفادة منها، وتشكيل عالم آمن بواسطتها، يمكننا من مقاومة أشد حالات الانحدار التي يمكن أن تواجه مجتمعا من المجتمعات، ذاك هو الانحدار الفكري، وما ينجم عنه من محاولات للعودة بالإنسان المعاصر إلى مئات السنين إلى الوراء، وبشتى الوسائل؛ بالإرهاب الفكري وبالقتل والقمع، فهناك جماعات الفضيلة والسيارات المسرعة التي تدوس المخالفين وأجهزة الإعلام الرسمي. ووسط كل ذلك يقف الإنسان أعزل إلا من خياله ومن العوالم الروائية التي شادها كتاب كبار كدستويفسكي وفرجينيا وولف ولورانس ونابوكوف.
ولكن في النهاية تبقى تلك العوالم أكثر تفاؤلا من عالم نفيسي الحقيقي، فلوليتا في الرواية تنجح في الفرار من سجنها ومن قبضة سجّانها وتختار حياتها وحريتها. غير أن الشعب لم ينجح في ذلك، وإن كانت نفيسي على المستوى الفردي قد هجرت موطنها.
سوف يقول المتفائلون: إن النهايات لم تزل مؤجلة وإن لوليتا لا بد أن تنتصر. وستقول نفيسي حينها: إن الرواية تستطيع أن تمثل الوضع العام، ولكنها لا تقدم إلا الحلول الفردية. أي أن على القارئ أن يستفيد من الرواية في فهم الواقع وعليه أن يستخرج منها الحلول الفردية التي تنقذه هو وحسب، لأن التاريخ، في النتيجة، يسير لحتمية معينة لا يستطيع أن يتنبأ بها أي كاتب. وكل الإشارات تؤكد أن من السذاجة التفكير بالعودة إلى حقبة النقاء والسلام الذاتي التي كانت المجتمعات تتمتع بها نسبيا قبل الثورات التي شهدتها المنطقة، على اختلاف تلك الثورات دينية أو غيرها، لأنها أوجدت شروخا عميقة في التكوين الاجتماعي، ووسعتها بمشارط المذهب والعقيدة والآيديولوجيا لتنتهي تلك المجتمعات، في حال تحررها من سجّانيها، إلى ضلال وفوضى لا حد لها.
إن لوليتا التي اتخذتها نفيسي أمثولة لما يجري في بلدها لم تعد كما هي لوليتا نابوكوف التي كان عليها أن تقوم بفعل الهرب فقط للتخلص من وضعها. ولكنها لوليتا تحتاج إلى تشخيص وضعها بأدوات مدنية، وبدون الاحتكام إلى مرجعية فكرية أو دينية أو طبقة سياسية. أي أن عليها أن تقيم خصوصيتها وتعيها وتقدمها للآخرين ليحترموها. فهي واقع ثابت في المكان والزمان والثقافة وعلى سجّانيها، أو من يحاولون الاستيلاء عليها، أو نسفها كليا، أيّا كانوا، أن يختاروا الرحيل.
هل قلت إنه ، ربّما، تصور لما علينا في العراق أن نقوم به!