بالاشتراك مع دارالرواق للنشر والتوزيع صدرت عن دارالأهوار في بغداد، رواية تحت عنوان “إيفين.. حفرٌ في الذاكرة”، للإعلامي والمثقف العراقي جورج منصور. ورغم أن الكاتب يؤكد منذ البداية “أن هذه ليست رواية ولا حكاية عابرة ولا نسجا من الخيال. أنها سيرة ذاتية واقعية أقرب الى نفخ في الجمر أو حفر في الذاكرة من أجل أستذكار أحداث مضت”. وكأن الراوي يريد أن يُباغت القارئ ويقول له، “كنت هناك في هذا الجحيم الارضي وهذه شهادتي”، يكتب زهير الجزائري في تقديمه للكتاب.
حقا إن رواية الإعلامي جورج منصور لسيرته الذاتية، مثلما كانت مثقلة بظلال التعذيب الوحشي الابيض في سجن إيفين السيِّئُ الصِّيت في طهران وسجن المزّة في دمشق، كذلك جاءت شاهدة على مسيرة العذاب المشترك بين جميع المواطنين العراقين خلال المائة عام من عمر الدولة العراقية. حيث مثلما استقبل رجال الامن السورية الاعلامي العراقي ونقلوه الى سجن المزّة لساعات وسط دمشق عام 1989، كذلك نقلوني وعائلتي، لربما نفس رجال الامن ونفس السيارة الى زنزانات فردية في نفس السجن لمدة ثلاثة أيام. وبعد أطلاق سراحنا سكنّا جنبا الى جنب مع جورج منصور وعائلته في ضاحية من ضواحي دمشق المتعددة الثقافات والاعراق والمسماة ب”مساكن برزة”.
بالعودة الى الفصل الاول من الكتاب وعنوانه “أبي”، وكأن السارد يريد أن يكشف للقارئ، حقيقة التشابه الجيني المتلازم بين الاب والابن، من خلال اصرارالاثنين على سلك دروب التحدي والالام. إذ مثلما يسرد الاب اليتيم بقلب موجوع ” كنت أتألم كثيرا وأشعر بالمذلة وأنا أشاهد أختي تتعذب.. فبدأت أعاني من صراع داخلي وتدهور..وفي أحد الايام أقترح علي صديقي سولاقا أن أرافقه الى الدير، سررت ولم أتردد في الاعلان عن موافقتي”. كذلك يكتب الابن عن حفلة التوديع والعودة من ليال الانس والحب في موسكو الى متاهات الجبل، فيقول” كانت صديقتي الروسية في حالة نفسية سيئة وبدت محبطة تماما. اذ لم تكن تستوعب فكرة مغادرتي موسكو لألتحق بحركة الانصار الشيوعين في جبال كردستان- العراق، لذا لم تتمالك نفسها وبكت”. لربما بسبب أيمان الكاتب بأيديولوجية الفيلسوف الماركسي”أنطونيو غرامشي” وهو يكتب في رسالة الى أمه، ” المقاتلون لا يمكن ولا يجب أن يكونوا محط شفقة من أي كان، عندما حاربوا لم يجبروا على ذلك، ولكن لأنهم أرادوا”.
صحيح أن خلفيات قرار الاب في قبوله الرهبنة في دير الربان هرمزد في القوش، لا تختلف كثيرا عن الاعتقاد الايديولوجي للابن، رغم الإشكالية المتجذرة في العلاقة بين الدين والايديولوجية على الدوام. حيث ان الاثنين يهتمان بأمور الحقيقة والسلوك، وكلاهما يتطلب منهما الالتزام بالمعتقد رغم أختلافهما. لآن الاديان تنظر للواقع المعاش من خلال منظورألهي، بينما الايديولوجيات تؤمن أن اساسها العقل!! فالاوضاع الاقتصادية والنفسية الصعبة للأب، مثلما خلقت جوا أذكى فيه فكرة التحول الى الرهبنة، بالقدر نفسه أذكت ألايديولوجية الماركسية للابن، فكرة تنفيذ القرارالحزبي الذي أصدره الحزب الشيوعي، لخريجي المعاهد والجامعات في الاتحاد السوفيتي بضرورة العودة والالتحاق بحركة الانصار داخل الوطن. بعدما أيقن الكاتب حسب قوله” أن مغادرة ساحة النضال تحت أي ظرف، ستكون نوعا من الجبن وخروجا عما يفرضه الواجب”.
علما أن الاب الذي لم يتردد للحظة في أختيارمرتع الرهبانية في الديّربدلا عن مصاعب الحياة والاسرة، بالقدر نفسه ولربما أكثر، لم يتردد لحظة في التمرّد على أسلوب رئيس الديروسلوكه المخالف للطقوس المسيحية حين وبخهم رئيس الديربقوله ” أنا رئيسكما وما عليكما الا الانصياع والطاعة “. ذلك خلافا لتعاليم المسيحية، كما ورد في أنجيل يوخنا ( 5:13): ” قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة وأتزر بها. ثم صبّ ماء في مغسل وأبتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متّزرا بها”.
وفي الختام، على جبين التاريخ نحفرعميقا ونعترف، أن ما حفره سجن أيفين في ذاكرة الاعلامي جورج منصور، سيبقى شاهدا على العصروسيحفر وقعها على جبين كل قارئ حكمة، تتعلم منها الأجيال القادمة سر التغلب على التحديات. حيث نجح الكاتب بحق في وصفه للعذاب المشترك في ظلام الزنزانات الانفرادية التي حلّ فيها ضيفا ثقيلا في كل من سجن أيفين، وسجن قوجان، وزنزانات في تركمانستان وأخيرا سجن المّزة في دمشق.
وفي قوله “من المواقف التي لم يستوعبها عقلي مهما حاولت أن أتغاضى عنها، هو أن السجناء لم يسمحوا لي نهائيا في يوم خفارة القاعة التي كان يتناوب عليها أثنان من بين النزلاء يتوليان مسؤولية تنظيفها، وتسلم الطعام وتوزيعه، أن المس أواني الاكل والاقداح”. هذا اللغّز المحير الذي تجّذر سرُّه عميقا في عقلية الاكثرية من المواطنين في بلدان الشرق الاوسط عموما وايران والعراق على وجه التحديد. أذ على سبيل المثال، رغم مرور 17 عام على مغادرة السيد منصورسجن أيفين ورغم أنهيارنظام الطاغية في بغداد، وأصرار المعارضة العراقية على رفع شعار التحول نحو عراق ديمقراطي جديد، يهدد خطيب مسجد في بغداد ويؤكد: “كيف يمكن لاعلامي ليس من دين الاغلبية ويحمل الجنسية الكندية أن يكون رئيسا لتلفزيزن العراق”.
ومن صميم القول القائل” لا شيء يقرب بين الناس مثل العذاب المشترك”، يمكن للقارئ أيضا أن يلمس خلال مروره بتداعيات الحفرالعميق في ذاكرة الكاتب، أن كاتبنا منصورحتما ، كان ولايزال يؤمن تماما أنه، بسكوت أهل الحق عن الباطل، يتوهم أهل الباطل أنهم على حق!!
حيث خلافا لتوقعات العديد من المتشككين بمن فيهم من أبناء شعبنا الكلداني السرياني الاشوري، بقابليات الاعلامي جورج منصورونهجه الانساني، فقد حرص خلال تقديمه لمشروع الفضائية الى (رابي- الأستاذ)، بأعتبار الاعلامي جورج منصورمؤسس “قناة عشتار الفضائية” الناطقة بأسم شعبنا المسيحي..على أن تكون قناة الفضائية توحيدية جامعة ومدرسة أعلامية لتدريب الطاقات الشابة ووطنيّة النهج وبخصوصية قومية من أجل أبرازتاريخ وحاضر شعبنا الاصيل والعمل على تأمين مستقبل أفضل للاجيال المقبلة”. حيث حرصّ الكاتب أيضا على تكرارمفردة “الاشورية” ( 31) مرة ضمن روايته ” أيفين.. حفر في الذاكرة” ، بينما وردت مفردة “الكلدانية” مجرد (7) مرات، والسريانية كلغة مرارا. ذلك أتساقا مع الصدق الايديولوجي والفني الذي ورد في روايته أو سيرته الذاتية كما يفضل الكاتب أن يسميها، تلك التي يمكن ختمها بالوعد الذي قطعه لوالده:
“أن ألتزم في تدوين شهادته بالوقائع التي حدّثني عنها بصوته الخفيض ..وعذرا لآنني تأخرت”.