لا يسع المواطن العراقي إلا أن يستبشر خيرا بإعلان نواب عراقيين عزمهم التخلي عن راتبهم التقاعدي الذي أقروه في اجتماعات سابقة، فهذه بادرة مشجعة كان يحلم بها الشعب لسنوات خلت، لكن البشارة هذه كغيرها من البشارات والوعود، اصطدمت بمراوغة بسيطة مكشوفة في عنادها العراقي المزمن. فلقد تجنب النواب القول إن استجابتهم جاءت تلبية للمطالبات الشعبية، أو إنهم بإعلانهم هذا يراعون المصلحة العامة، بل (أصر نواب الشعب) على أن قرارهم هذا جاء استجابة لنداء (المرجعية).
الدولة العراقية الحالية بعد 2003 لم تأت عن طريق مؤتمر عقدته بريطانيا العظمى في القاهرة 1921، ولا جاءت هبة من الانتداب البريطاني لإبقاء ملك العراق ملكاً عام 1932، كما أن شرعية هذا الحكم لم تأتِ من ثورة شعبية بقيادة ضباط أحرار على الحكم الملكي 1958، ولا بانقلاب عسكري كما حدث في 1963، ولا بتنحية رئيس واستلام رئيس آخر للحكم عام 1979، الحكومة العراقية الحالية منذ 2005 وإلى اليوم تستمد شرعيتها من الشعب، من الانتخابات. لا شرعية لوجود الحكومة العراقية اليوم غير الشعب، الشعب مصدر الصلاحيات. وللتذكير بالدستور العراقي نقتبس: ((الشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية)).
لا نريد من نواب الشعب أن يقرؤوا التاريخ ويقارنوا شرعية موقعهم (رواتبهم واعتباراتهم الاجتماعية وحصانتهم..)، بشرعية موقع من سبقهم في إدارة الحكم في العراق، بل إن أقصى ما نريده هو أن يقرؤوا الدستور العراقي مجددا، ولا ينسوا المادة (5) منه حيث لا سلطة ولا شرعية لأي نائب إلا من الشعب.
إقحام \”المرجعية\” في أي قرار للسلطات العراقية، لن يقدم أو يؤخر في نظرة \”المرجعية\” إلى نواب البرلمان، ولن يزيد من اعتزاز الشعب بالنواب، فالنائب رهين بمسؤولياته، صعودا وهبوطا، ومن خلال أدائه لمسؤولياته يكبر في عين \”المرجعية\” أو يصغر، ويرتفع رصيده بين أبناء الشعب أو ينخفض. لهذا يعد توريط \”المرجعية\” في قرارات البرلمان بمثابة تهرب من المسؤولية البرلمانية، وجرها إلى ساحة (غير الدين)، حيث مناورات السياسيين، وتسوياتهم وقراراتهم التوافقية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
إقحام \”المرجعية\” في قرار (قطع، أو تخفيض..) الراتب التقاعدي لأعضاء البرلمان، بما ينطوي عليه من تبرؤ البرلمانيين من مسؤولياتهم، وإنكارهم وطعنهم (لشرعيتهم) المستمدة من الشعب، سيتسبب في تأكيد الشرخ بين المرجعية والشعب، لانعدام حلقات الحوار بين (الطرفين)، ولغياب مؤسسة ثقافية اجتماعية تؤكد \”شورى الفقهاء المراجع\”، وتشرعن الحوار الشعبي الديني بين طرفي المعادلة ضمن الدستور العراقي.
من المؤسف أن كثيرا من النواب وهم يرددون مفردة (المرجعية)، لا يعرفون أنها تعني في حقيقتها (الشعب)، ولو أنك سألت برلمانيا غربيا عن (مرجعيته الدستورية)، لأجابك دون تردد (الشعب هو المرجعية)، وهذا بالتحديد ما أكده دستور جمهورية العراق ((الشعب مصدر السلطات وشرعيتها)) وهل أوضح من هذا البيان بيان!
فيا مَنْ أعطاهم الشعب العراقي سلطاتهم، ويا مَن منحهم الشعب شرعيتهم، لا تدعوا أية فرصة للتعبير لهذا الشعب عن امتنانكم وشكركم، .. راقبوا مطالبه لتستجيبوا لها كي تثبت شرعيتكم، وتبسطوا سلطاتكم، فالشعب هو المرجعية، ولا مرجعية إلا له في حكم هذا الوطن، وإدارة هذه البلاد.. أو في الحفاظ على ما بقي منها،.. ومَن أضل من برلمان لا يعرف مرجعيته، ومن أجحد من نواب يرفضون الإقرار بمرجعيتهم.