لنتخيل معاً هذا السيناريو، بعد سنوات سيأتي مخرج أفلام وثائقية لينتج فلما عن \”شلش العراقي\”!. صحيح أن شخصية شلش الخفية ابتعدت منذ زمن عن واجهة الأحداث، إلا أن ما كتبته في السنوات الأولى للحرب الأهلية في العراق سيبقى العتبة الأولى لأي أرشيف عن تلك الأيام السوداء. سيحاول المخرج زيارة قطاع 43 في مدينة الصدر، والتحدث مع الناس وسؤالهم عن الشخصيات التي ذكرها شلش، فربما كانت إحداها حقيقية. وهذا بالتأكيد سيضعف من اعترافات البعض ممن قالوا أنهم شلش، وهم يعيشون خارج العراق قبل التغيير وبعده، ولا يعرفون شيئا عن الأجواء الداخلية لمدينة الصدر، وتحديدا صراع جيش المهدي مع الأمريكان آنذاك، وهو ما نقله شلش بدقة متناهية، جعلتنا نحن سكّان المدينة نؤمن أن شلش يسكن بين ظهرانينا .
سيذهب المخرج بعد ذلك ليحاور المتخصصين بالنقد، ويحاول من خلالهم مقارنة لغة شلش مع لغة من يدعونه، وسيتضح أن لغة شلش ذات تراكيب بسيطة، وغير معقدة، ولكنها أرضية، واقصد هنا امتدادها داخل كلام الناس الحميم، وصدقها المتناسق مع البيئة التي ينطلق منها. حيث كل المتكلمين لديهم اتفاق مسبق على ما سينتج عنه الحوار بالضبط، كأي معادلة حسابية صحيحة لا يتسرب لها تقاطع الثقافات والاغتراب الإنساني والاختلاف الفكري والمناطقي.
سيلجأ مخرج الفيلم الوثائقي إلى ما كُتب عن شلش، ويحاول تفكيكه بناءً على صدق القراءات الاولى، وقربها من الحدث. ربما يستخدم تعليقات الناس على ما كتبه شلش، وربما يفكّر بعودة شلش الفيسبوكية، وكيف كانت غريبة ومتناقضة مع طلّته الأولى، وهكذا سيجد أن الظهور الأخير لشلش كان في عام 2006.
هناك من سيساعد المخرج بطرق سرية ليكتشف حقيقة شلش، وهؤلاء لن يعلنوا أسماءهم، بل ربما طلبوا مبلغا من المال، وعلى الأكثر سيكونون كذبة وسيكون المخرج على موعد مع شركة هوت ميل، لان الايميل الذي كان يذيل به مقالاته في مرحلته الحقيقية، ينتمي الى هذه الشركة علّه يجد لديهم بعض المعلومات الداخلية الخاصة بإنشاء البريد، و سترفض الشركة إن لم تكن قد أغلقت آنذاك.
سيبدأ المخرج الذي بات يشعر باليأس، بتقليب الاحتمالات في هذا الوقت. مثلا شلش توقف في مقالته التسعين عند فكرة الهجرة، وهكذا ربما كان في إحدى الدول الباردة الآن يشرب القهوة إلى جوار زوجته الشقراء، وأبنائه مختلطي الأعراق. لكنه سيتذكر أن مقاله الأخير، جاء قبل تفجير مروع حصد أرواح أكثر من 200 شخص في مدينة الصدر. وهكذا فالمخرج أمام احتمال موت شلش، وهو الجزء الأكثر مأساوية في الفيلم، فالمتابع سيقف أمام اللانهاية، وعليه أن يتقبل أن أشلاء شاب من مواليد 1970 في قبر بعيد داخل مقبرة السلام على الأرجح، هو المكان الذي يدور حوله سؤال من هو شلش العراقي دون أن يجد إجابة.
لعبة الاحتمالات ستنتهي عند هذا الحد، لينتقل المخرج إلى سؤال مهم: لماذا يتذكر العراقيون شلش عند كل أزمة سياسية؟. يعتقد المخرج حينها أن شلش كان ضميرا من نوع خاص، وأن محاولات الجميع لاكتشافه هي طريقة لقتله، واسكات صوته في دواخلهم، وذلك الأسلوب يحاول وضع شلش على مقصلة العلن المتسخة بدماء متباعدة النزف.
سيقول المخرج في ختام الفيلم ما نصّه: شلش العراقي سر لا يحتاج الكشف، بقدر احتياجه لتمرير صداه نحو الآخرين، وتقديم تصور جاد عن الحرب الأهلية في العراق، والتي يحاول كل الكذبة تسميتها بالفتنة الطائفية، كي يستمر تلاقف الذنب بين المتقاتلين، ووضع رؤوس مزورة لأجساد ميتة منذ قرون اسمها المذاهب.
شلش العراقي ميت الآن أو يائس حد السكوت المستمر، وفي الحالتين هو يمارس ما لا نستطيع فعله رغم حيويتنا.