الحرب حتمية، فتحرك الأرشيف السينمائي العراقي من مخازن دائرة السينما والمسرح، الملاصقة لمبنى مسرح الرشيد، إلى الموقع البديل! الذي لم يكن بعيدا هذه المرة؛ جسر السنك ونهر دجلة هو ما فصل أرشيف الذاكرة البصرية العراقية عن موقعها الأصلي.
الموقع البديل هو بناية منتدى المسرح ـ وقتذاك ـ وهو أصلا منزل الوزير العراقي الأسبق \”ساسون حسقيل\” مهندس الاقتصاد العراقي المعاصر. في ذلك المنزل الذي حملت زواياه ذاكرة من نوع خاص، سياسيا، واجتماعيا، وثقافيا؛ تم تخصيص غرفة في الطابق العلوي، وهي من أوسع الغرف في المنزل العملاق، لخزن كل الأرشيف السينمائي العراقي من الأصول. والأصول هنا هي نسخ السالب التي يتم عبرها نسخ كم غير منتهٍ من نسخ العرض السينمائي، تشكل كل الأفلام السينمائية الروائية والوثائقية المنتجة من قبل الدولة العراقية، كذلك العديد من الأفلام المنتجة ضمن نشاط القطاع الخاص والمختلط.
أشرطة للذاكرة اصطفت في غرفة أعدّها يوما الوزير \”حسقيل\” للقاء بضيوفه، او للاختلاء بنفسه من وجع رأس الحكومات ربما! غرفة أبعد ما تكون عن جاهزية لخزن هكذا خامات حساسة في مستوييها التقني والتاريخي؛ أكثر من تسعين فيلما روائيا وأكثر من أربعمائة فيلم وثائقي، منفذة على خامة سينمائية صُممت على الصمود في وجه الزمن فيما لو توفرت لها اشتراطات الخزن العلمي. أفلام تشكل ذاكرة العراق الحديث، بكل ما مر عليه من صراعات ومتغيرات وحقائق وبالتأكيد الكثير من الأكاذيب والزيف! شهود على مراحل تاريخية مهمة تمثلت في شكل أشرطة التفت، لتخزن في علب، لتأتمن ذاكرة الثقافة العراقية والمسؤول فيها.
النية الأساسية للمشرفين على فكرة الموقع البديل كانت متأسسة على المسمى ذاته \”بديل\” وليس \”نهائيا\” لكن عقدا كاملا قد مرّ على هذه الأفلام دون أن تتحرك من موقعها \”البديل\” إلى مخزن معد بشكل علمي ليأتمن هذا الإرث البصري الوطني.
بعد تسلمنا للبناية ـ نحن مؤسسو المركز العراقي للفيلم المستقل ـ كان من أول اهتماماتنا هو \”أرشيف السينما العراقي\” وأول فعل قمنا به أنا وزميلي محمد الدراجي، هو دعوة الدكتور شفيق المهدي ــ بصفته مديرا عاما لدائرة السينما والمسرح وقتذاك ــ ليشاهد بأم عينيه الوضع المزري للأرشيف. جاء، فشاهد، فحزن، حتى اقترب الدمع من عينيه. وليت الدمع ينقذ واقعا.
الخطر الأكبر الذي يواجه هكذا أرشيف هو المناخ! درجة الحرارة والرطوبة النسبية. علميا تعتبر عملية الخزن غير ناجحة إذا ما تجاوزت درجة الحرارة الـ٢٤ مئوية. في حين أن درجة حرارة غرفة الخزن الحالية تصل ٥٠ مئوية!! وعلى مدى عقد كامل!! إنها لمعجزة كون بعض هذه النسخ ــ المنتجة في الأربعينات والخمسينات من القرن المنصرم على وجه التحديد ــ لم تصل درجة الاتقاد الذاتي!! تحديدا عندما نعلم بأن كل مكوناتها الكيميائية مؤهلة لكارثة كهذه!! الخطر الآخر هو التصدع الكبير الحاصل في سقف الغرفة ـ المخزن ـ وهو تصدع قد بدأ بالاتساع مهددا كل شيء في المبنى وليس الأرشيف وحده، ولكون المبنى خاضعا لسلطة دائرة الآثار، فإننا، القائمون على إدارة المركز، نقف عاجزين تماما عن أي فعل ينقذ ما يمكن إنقاذه. أي خراب؟
إنها ذاكرة بلد، وأي بلد! إنها الذاكرة البصرية للعراق. إنها صور بعضها ملون والآخر بالأبيض والأسود، متحركة، بصوت مراحلها التاريخية وقد أرشفت حياة مدننا وحياتنا. وعبر حسبة اقتصادية مبسّطة؛ فان إنقاذ هذا الأرشيف لا يكلف دولتنا أكثر مما يكلفه راتب تقاعدي، ولشهر واحد، لرئيس جمهورية سابق، أو حالي، قد سكن، أو يسكن، العراق لبضع سنوات.