يبدو أن الإجراء الحكومي بسحب مبالغ الأمانات الضريبية لتسديد رواتب الموظفين، قد فتح باب الجدل حول عجز الحكومة عن إيجاد حلول تمويلية بديلة عن النفط، الذي طالما كان الركيزة الأساسية للموازنة، مما وضع اقتصاد البلاد على بساط من القلق، بسبب تقلب أسعار النفط في السوق العالمية.
نواب ومختصون في الشأن الإقتصادي، أكدوا أن العراق يعاني من أزمة سيولة نقدية، مشيرين في الوقت ذاته إلى سوء إدارة الحكومة للملف الاستثماري.
وقال النائب معين الكاظمي، في حوار مع الزميل سامر جواد، تابعته “العالم الجديد”، إن “ما جرى من سحب الأمانات الضريبية يعود بالدرجة الأولى إلى وجود (أزمة كاش) في العراق، لأن البلاد مستمرة بتصدير 3 ملايين و300 ألف برميل نفط يوميا”.
وأضاف أن “تلك الأموال تودع بحساب العراق في البنك الفيدرالي الأمريكي، ولا تحول للعراق مباشرة، إلا من خلال الحوالات المالية، التي تصدر من المصارف بواسطة البنك المركزي للاستيرادات الحكومية والتجارية”.
وتابع الكاظمي أنه “من خلالها يتم جمع الدينار مرة أخرى لتوفير 8 ترليون دينار شهريا، لتأمين رواتب الموظفين البالغ عددهم 4 ملايين و200 ألف موظف، والمتقاعدين أكثر من 3 ملايين متقاعد، والرعاية الاجتماعية أكثر من 3 ملايين شخص”، مستدركا “من المؤكد هناك متراكم من الدولار في حساب العراق بالفيدرالي الأمريكي، لكن العراق بحاجة إلى 25 ترليون دينار للجانب الاستثماري فقط العام الحالي”.
إلى ذلك، يتفق الخبير في الشأن الاقتصادي، عبد الرحمن المشهداني مع الكاظمي بأن “العراق يعاني من أزمة سيولة نقدية (كاش)، كاشفا عن الأسباب وراء بروز هذه الأزمة في الوقت الراهن، حيث يقول “يبدو أن احتياجات الحكومة أكثر من مبيعات الدولار في البنك المركزي”، مبينا أن “هناك مجموعة من الآليات منحها البرلمان للحكومة في الموازنة الثلاثية، إلا أن الأخيرة لم تلجأ لها، وهي أنه خولها باللقتراض من البنك المركزي”.
وأضاف أن “الدورة المصرفية في العراق هي عندما تخرج الأموال للرواتب لا تعود بالسرعة المطلوبة إلى الدولة”، لافتا إلى أن “انخفاض الإيرادات النفطية وغياب الاحتياطات التي يمكن أن تنسد عليها الحكومة فضلا عن غياب مصادر الدخل غير النفطية قد ساهم بذلك”.
وأكد المشهداني، أن “الايرادات غير النفطية لا تزال أقل من المخطط لها، حيث عندما كانت الموازنة 211 ترليون إجمالي الصرف كان 156 ترليون الجزء الأكبر منها نفقات تشغيلية، فأين الجانب الإستثماري منها؟”.
وتابع، أن “جباية الكهرباء يفترض أن تدر على الدولة نحو 14 تريليون سنويا، إلا أن جميع ما وصل منها للحكومة مليون و٥٠٠ إلى مليونين دولار”، مؤكدا أن “هناك خللا وظيفيا لدى الدولة، وسوء إدارة في الاستفادة من الإيرادات غير النفطية، حيث أن ما تعمل عليه الحكومة من تغيير سعر صرف الدولة للاستفادة من فرق السعر يمكن استحصالها من ضبط المنافذ”.
ومن المقرر ان تستضيف اللجنة المالية النيابية، مدير عام هيئة الضرائب، اليوم الاثنين، للاستفسار بشأن “استفادة” الحكومة من السيولة الموجودة في الأمانات الضريبية ومدى قانونية وشرعية هذا التصرف.
وكان مجلس الوزراء، قد قرر في 15 نيسان أبريل الماضي، تخويل وزيرة المالية صلاحية سحب مبلغ الأمانات الضريبية التي لم يمضِ عليها خمس سنوات، لتأمين تمويل رواتب موظفي الدولة لشهر نيسان والأشهر اللاحقة.
هذه الخطوة واجهتها انتقادات حادة من مختصين قانونيين، أشاروا إلى أن الأمانات الضريبية لا تُعد من الإيرادات العامة للدولة، إلا بعد مرور خمس سنوات من تاريخ إيداعها دون المطالبة بها، وبالتالي فإن سحبها قبل هذا الموعد يُعد “تصرفا مخالفا للقانون.
وأثار هذا التخويل الجدل حول هشاشة الواقع الاقتصادي للبلاد، حيث ذكر النائب مصطفى سند، أن “هذه الأموال نفسها التي ارتبطت سابقا بقضية نور زهير”، في إشارة منه إلى الفضيحة المالية السابقة التي اشتهرت إعلاميا تحت اسم “سرقة القرن”.
في المقابل، سعى البنك المركزي العراقي إلى تهدئة المخاوف، وأكد في بيان تلقته “العالم الجديد”،أن الوضع المالي للعراق “مستقر”، مشيرا إلى أن احتياطي مصرف الرافدين يتجاوز 8.5 تريليونات دينار، منها أكثر من 4.2 تريليونات دينار احتياطي غير مستخدم، وهو ما اعتُبر مؤشرا على استقرار الوضع المالي، رغم الضجة المثارة.
ويعد استمرار الدولة العراقية بالاعتماد على النفط كمصدر وحيد للموازنة العامة، يجعل العراق في خطر من الأزمات العالمية التي تحدث بين الحين والآخر لتأثر النفط بها، مما يجعل البلاد تتجه في كل مرة لتغطية العجز عبر الاستدانة من الخارج أو الداخل، وهو بذلك يشير إلى عدم القدرة على إدارة أموال الدولة بشكل فعال، والعجز عن إيجاد حلول تمويلية بديلة.
ورفعت شركة بي.إم.آي للأبحاث التابعة لفيتش سولويشنز توقعاتها لعجز ميزانية العراق في 2024 من 3.3% إلى 7%، ما يرجع في الأساس إلى ضعف آفاق الإيرادات النفطية التي تمثل 93% من إجمالي الإيرادات الحكومية.
وكان المستشار المالي والاقتصادي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح، أكد في تقرير سابق لـ”العالم الجديد”، أن “هناك هيمنة تاريخية للريع النفطي في مكونات موارد الموازنة العامة السنوية في البلاد، إذ مازالت عوائد النفط تشكّل قرابة 91 بالمئة من إجمالي الإيرادات الفعلية السنوية في الموازنات الحكومية لقاء 19 بالمئة للإيرادات غير النفطية، والسبب يعود إلى غلبة الاقتصاد الأحادي النفطي في تكوين الناتج المحلي الإجمالي للعراق، الذي يتراوح بين 50- 45 بالمئة من الناتج الإجمالي السنوي، في حين نجد أن تأثيرات إنفاق العوائد النفطية على دورة الحياة الاقتصادية، تمتد إلى أكثر من 85 بالمئة من فاعلية النشاط الاقتصادي الكلي؛ الأهلي والعام في العراق”.
ويعتمد العراق بنسبة كبيرة على بيع النفط الخام، في تأمين إيراداته السنوية ودفع الرواتب وبقية المستحقات الأخرى، فيما يواجه قطاع الزراعة الذي كان يمثل أحد روافد الإيرادات في السابق، تدهورا كبيرا. ومنذ عام 2022، برزت أزمة الجفاف بشكل جلي في العراق، فبعد أن تم تقليص المساحات الزراعية إلى 50 بالمئة في العام الماضي، تفاقمت الأزمة مؤخرا عبر فقدان أغلب المحافظات مساحاتها الزراعية، وأبرزها ديالى وبابل، حيث أعلن مسؤولون فيها عن انعدام الأراضي الزراعية بشكل شبه كامل، بسبب شح المياه.
وكانت “العالم الجديد”، أعدت ملفا موسعا سلط الضوء على الاقتصاد والزراعة والنفط بعد عشرين عاما على زوال النظام السابق، وأظهر أن قطاعي الزراعة والصناعة شهدا تراجعا هائلا، بلغ مرحلة الانهيار، حتى باتا لا يشكلان سوى 2 بالمئة من الناتج المحلي، بعد أن كانت نسبة القطاعين بحدود 15 – 20 بالمئة، لكن النفط كان الوحيد الذي شهد تطورا ملحوظا، حسب وصف خبراء بمجال الاستخراج والخزن والتصدير.