الإنتاج المشترك

ابن الشرق؛ أول فيلم سينمائي ينتج في العراق عام 1946 وهو إنتاج عراقي/ مصري. في تلك المرحلة كان الفيلم المصري قد أرسى دعائمه فنيا وإنتاجيا، بينما العراق كان يحبو بصيغة المتلقي الخجول لما يطرح سينمائيا على المستويين التجاري والفني. ابن الشرق فتح الطريق للعقل الإنتاجي – الفني العراقي ليكوّن ثقة، لا بأس بها، في النفس للمضي، وإن بحذر، في لعبة الإنتاج السينمائي.

وللسيطرة، شبه المطلقة، للعقل القومي على مفاصل الحياة في العراق وعلى مدى عقود؛ أصبحت فكرة الإنتاجي السينمائي المشترك ـ مع الغرب تحديدا ـ فكرة مشكوكا بها مسبقا؛ \”نحن خير أمة أخرجت للناس..\” وبزهو زائف انسحب هذا المفهوم على الثقافة عموما وعلى السينما خصوصا. وتجسّد هذا الـ\”زهو\” عبر سيطرة دولة البعث على مجمل الإنتاج السينمائي العراقي عن طريق توفير رؤوس أموال طائلة لإنتاج أفلام الأجندات المقيتة. ذاك الزهو وتلك السيطرة سحبت البساط تماما من لحظة كانت كفيلة بنقل الفيلم العراقي إلى مديات نحلم بها الآن.

ومن خلال تجربتي في فيلم \”غير صالح\” فإن أول دعم حصلنا عليه لم يكن تقليديا بالمرة؛ تحميض الفيلم ونقله إلى صيغة \”الديجتال\” مجانا من طرف شركة كوداك العالمية. بالتأكيد كان السبب الأول في هذا هو الإنجاز الصوري الهائل الذي تم على يد مدير التصوير زياد تركي في عمله على خامة سينمائية منتهية الصلاحية ومنذ أكثر من عقدين. في تلك اللحظة أدركتُ أهمية فكرة الإنتاج المشترك. لكن الإنتاج لم ينتهِ هناك.. لا يزال أمامنا الكثير؛ فالأكثر تكلفة هو المونتاج وعمليات الصوت. في تلك اللحظة الحرجة تدخلت المنتجة السينمائية فرات آل جميل بمهنيتها العالية لتعقد صفقة إنتاج مشترك هي الأولى بين العراق وألمانيا سينمائيا! تم ذلك عبر التعاقد مع شرك \”اكس فيلم\” العريقة في برلين. وللحظة، وجدتُ باب التقنيات السينمائية، التي كنت اقرأ عنها في المجلات والدوريات والكتب التقنية، مفتوحا أمامي بالكامل. نهر عذب من العلم أغرف منه ما أشاء. شعرت وقتها أن زمن المؤجلات انتهى! ها أنا ذا، شاب بغدادي حُرم بالكامل من التجوال في أروقة حقه الطبيعي في العلم والخبرة التقنية داخل بلده، أقول ها أنا ذا، أتجول في واحدة من أعرق الشركات السينمائية التقنية في العالم \”شركة اري فلكس/ ميونخ\” كان كل شيء يُنفذ أمامي، حتى أن التقنيين الألمان كانوا قد أعلنوا استغرابا من كثافة تواجدي في كل مرحلة، فشرحت لهم: إني أعوض ما فاتني.. إني أتعلم وهو أول فيلم سينمائي عراقي بعد زلزال ٢٠٠٣، وهو الإنتاج السينمائي الذي كان قد تأسس بالكامل على مفهوم السينما المستقلة. كان رأس مال الإنتاج الأول هو عرق جبين فريق العمل الذي تفانى في الأداء وعلى مدى سبعة أشهر متواصلة.

وفي تجربتي الروائية الثانية \”فيلم كرنتينة\” وبالرغم من دخول دائرة السينما والمسرح منتجا، فاني كنت مصرا على فكرة الإنتاج المشترك، وهذا ما حدث. هذه المرة كان مع \”شركة دي باسس برلين\” الألمانية بالإضافة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة/ مهرجان أبو ظبي السينمائي. وهي أول ممارسة إنتاجية تقوم بها دائرة السينما والمسرح في إطار الإنتاج المشترك. الإصرار على الإنتاج المشترك هنا ليس خيارا شخصيا، بل هي اللحظة المثالية للمنجز السينمائي المعاصر. وإذا ما أحصينا الأفلام التي تعرض في المهرجانات العالمية، فان أغلبها يحمل صفة: الإنتاج المشترك.

الإنتاج السينمائي المشترك لا يعني تذويب الهوية الوطنية لصالح أجندات خارجية، مثلما يروج له الكثير من حاملي راية \”نحن خير أمة\” بل هو فعل سينمائي بحت يؤسس للحظة تلاقح ثقافي/ سينمائي بين الحضارات على اختلافها. وهو حل أوربي بامتياز! كان قد توسع ليشمل الحضارات المجاورة. والنتيجة كانت مجموعة هائلة من التحف السينمائية التي دفعت بالفيلم السينمائي، فنيا وإنتاجيا، إلى أبعد ما يكون عن ضرورات الاستهلاك التجاري الهدّام في أغلب حالاته.

ما الذي يمنع قسم السينما في دائرة السينما والمسرح من تبني خطة إنتاجية تعتمد في أساسها على مفهوم الإنتاج المشترك؟؟ تحديدا وان العذارة القانونية، الإدارية والنفسية قد تم فضها عبر تجربة فيلم كرنتينة. كذلك توفر مجموعة ممتازة من الشباب السينمائي العراقي الذي بدأ برسم ملامح طريقه السينمائي بثقة وتصميم. أضف إلى هذا فان دائرة السينما والمسرح هي الجهة الأكثر قابلية لتبني هكذا فلسفة في الإنتاج السينمائي الحديث، وذلك بسبب تنامي الموجودات التقنية في مخازنها مؤخرا. كذلك صلاتها في كل مفاصل الدولة العراقية، وهي صلات كفيلة بتذويب الكثير من العقبات اللوجستية للإنتاج السينمائي. وبدل أن نصرف أموالا في سينما لن تخرج عن حدود صالة المسرح الوطني، فإننا نعبد الطريق بهذا إلى ملامح عالمية للفيلم العراقي.

إقرأ أيضا