\”الإنسانية حاجة\”

لاشك, أن ظهور الأنبياء والمصلحين قرين بحاجة المجتمعات إلى مثل هكذا خامات بشرية, كانت وما زالت تعمل على خط عريض عنوانه \”الإنسانية\” قبل أي شيء آخر.
الإنسانية هي تلك النوتة الموحدة التي يشترك بالعزف عليها جميع الأنبياء والمصلحين الذين أدركوها في مجتمعات غُيّبت فيها أبسط مفاهيم الأنسنة, فهي حاجة المجتمع ومطلبه الأول في خلق التعايش والانسجام ضمن ركب رحلة الكدح التي ستنتهي في يوم ما. \”محمد وعيسى وسقراط وافلاطون والحلاج وغاندي وجيفارا وغيرهم\” هؤلاء دعاة الإنسانية, إنهم أبصروا الحقيقة المتناهية لأنسنة المجتمع قبل غيرهم, لذا فهم سخّروا أنفسهم وكل ما يملكون لأجل أن يزيلوا الغبار والصدأ الذي يحيط بإطار الإنسانية كلما مر الزمان وازدادت كثافة ذلك الغطاء الحاجز بين الإنسانية وندها الذي يسيطر على بني آدم كلما بدأت دعوة إصلاح وسلمت زمامها للأخرى, بنسخة مشوهة, تركب موجتها لتحيد عن خطها ونهجها وبعدها الأخلاقي والتكويني الذي ولدت لأجله.
يعتقد \”عبد الرزاق الجبران\” بهذا الخصوص, أن الأنبياء لم يُعرفوا بالله في بادئ الأمر, إنما عُرف الله بهم, فهو يقول في كتابه (لصوص الله) ما نصه: \”النبي لا يحتاج توقيعا من الله بأنه نبي, هو نبي سواء بمعجزة أو بدونها, بجبريل أو بدونه, لأن اليوتوبيا الإنسانوية – التي تتحرك بها ذات النبي- غير مألوفة, وغير متوفرة مع البشر عادة, تجعله شخصا معجزا أو غريبا لدى الناس, ولكن معجزة ذات لا سماء, معجزة أخلاقية لا كونية, أي أن قدر إنسانيته يبلغ حد الإعجاز, عجز الناس عن الوصول إليها عادة في تاريخ البشرية..\” وهنا نلاحظ أن الكاتب يجرّد الأنبياء والمُصلحين من ثوبِ القَداسة والإعجاز, مُلقيا النظر من الزاوية البشرية حيث كانوا جزءا من مجتمعٍ ولدوا فيه, وتفكروا, تعايشوا, ورسموا لأجله مسارات إنسانية عريضة, استطاعوا فيها أن يصلوا إلى الإقناع بخطاب إنسانوي قبل خطاب المعجزات.
يضيف الكاتب \”الجبران\” عن المصلحين من غير الأنبياء, مقارنا إياهم بالأنبياء: \”هؤلاء لا يملكون معاجز أو كتبا حتى يتبعهم الناس ويصدّق أنهم إلهيين, كانت تكفي نبالتهم الخارقة للمألوف في تصديقهم, ومحمد لم ينتمي إليه أبو ذر وبلال لأن بيده كتاب من ربه يثبت عقلا أنه رسول الله لأنهم ليسوا فلاسفة ولا بلاغيين ولا شعراء إنما بيده رحاب من قلبه, يثبت أنه نبيل, بل لم يهمهم أنه نبي بقدر ما كان يهمهم هو أنه نقي, لذا فإن الذين عرفوا النبي كانوا أصحاب القلوب وليسوا أصحاب العقول ولهذا نصر أن الدين كيان قلب وليس كيان معرفة\”.
هكذا نجد أن المجتمعات تعتصر وتختزل لتلد الأنبياء والمصلحين, بوحيٍ أو بدونه, بعد أن تمر بانعطافة التاريخ نحو كل ما يحيد عن الإنسانية, لأنها حاجة العيش ومعيار سلامة الفكر وعمود خيمة الوجود, حين يصل التعايش لكآبة العيش ستجد أن هناك صرخة تدوي لأجل بزوغ المصلحين, لا يسمعها إلا من يملك آذانا من قلوب وبصيرة من حياة.
* كاتب عراقي

إقرأ أيضا