لم يبق سوى الافتراض، ما قد يتناسب مع وسائل الإبادة التي تعبر الجسد، فتتناهى خارج مكونات القلب والروح، بعيدا عما شكل الإنسان عبر رحلته.
الذين يقفون اليوم لكي يدينوا \”الإرهاب\” أو القتل، هم في الحقيقة يمتحنون بلا نجاح الاسم الذي ابتدعوه لكي يعرفوا نهاية الأجساد، وانتفاء حيثيات الاجتماع. هل نحن على مشارف عالم ينقلب، حيث اللغة تبدي تراجعها وتفشل في المطابقة، فينهار بناء التاريخ والوجود، تتوقف الفلسفة والدين، ولا تعود الفكرة الأرضية أو الإلهية كافية، حين يتحول الجسد قنبلة، بما هو المكون الإنساني الكامل، بكل ما للعقل والجسد من ثقل، وقد صارا في حالة انتفاء، بينما لا تعود الأجساد والأرواح قائمة، إنها تتبخر، تتلاشى، وتتحول إلى أشلاء يستقبلها الفضاء، وتتذرى مع الأحذية والثياب، وبين القمامة وتحت الأرصفة.
هكذا وجد الإنسان نفسه منتصرا ومدحورا. منذ فترة أعلن عن ظهور عالم \”الحرب اللامتناسقة\”، وكان هذا يعني انتهاء الحرب من بعض الوجوه، بصفتها عملا إباديا تضبطه قوانين الوجود. قيل \”العنف قابلة التاريخ\”. حين اكتشفت القنبلة الذرية، توقفت الحرب، لان مفعولها كان يتجاوز القانون الموضوع عبر آلاف السنين من العيش الإنساني، ومن الصراع لأجل السيادة. وحين ظهرت حرب \”العصابات\”، و \”اضرب واهرب، اختلت جزئيا قوانين الحرب المضبوطة ضمن سقف المواضعات البشرية، حتى في أسفل سلم اللاانسانية والفاشية المطورة داخل أجهزة الدول العظمى. اليوم مع الاكتشاف الجديد، حيث الجسد هو القنبلة، وحيث المكان الأكثر اكتظاظا هو الهدف، لم نعد داخل قوانين \”الحرب\”، لقد عبرنا لأننا عبرنا الإنسان إلى ما بعده.. تلك هي صورة ابن لادن التي سيحفظها التاريخ، إذا بقي التاريخ.
ليس ما نشهده اليوم من تناثر الأجساد، هو \”الإرهاب\”، فهذا التعبير عجز آخر إضافي، حيث العجز عن الوصف، يقابل العجز عن رد الإبادة. لم تعد القوانين أو الأعراف القديمة، التي تقدس الجسد الميت، وتضعه في الأهرامات، أو تحنطه، مستمرة. لا حرمة الآن لمصاب، ولا تحريم للتمثيل، لان الحرب الحالية، تبدأ مما بعد التمثيل بالأجساد، تبدأ من جعلها تتبخر. إذن فقد عبرنا الحروب والقوانين، وعبرنا \”المجتمع\” و\”الاجتماع\”، لم تعد هنالك أية مشتركات. لا أحاسيس أو مشاعر، مع أنها يمكن أن تظهر أحيانا، كما في حالة الانتحاري الذي جاء إلى مقهى مكتظة في العراق، واعتذر ممن قرر قتلهم، والموت معهم قبل أن يقدح الزناد: قال لهم \”سنلتقي بعد ثوان في الآخرة\”. وهذا المشهد ليس اقل من تفلت نادر، فالانتحاريون عادة ينفصلون كليا، بحيث يصبحون \”كائنات أخرى\”، والشحن الذي يتلقونه، وغسيل الدماغ، يستهدف إخراجهم الكلي من ثقل الوشائج البشرية، والحصيلة كائن منقطع عن السلالة، تنتهي عنده السلسلة لتصعد إلى الآخرة، وحيث النتائج نادرة، تبنى على شرط انمحاء الركائز القيمية، فلابد أن من هيأوا هذه الآلة، قد وضعوا ما حدث ضمن اعتبارهم، وقرروا أن لا تتكرر حالة \”الاعتذار\” المشينة تلك. هنا في العراق، يحدث كل شيء على انه بدء، وهنا يحل ضيفا ثقيلا أو خفيفا، البدء وكأنه النهاية.
وحيث احتشاد العشرات، المئات، من الانتحاريين يتوافدون على العراق، لا يعود العد أو التسجيل هو الآخر مهما، والأعداد هي الأخرى تسقط والاهتمام يتوارى، مئات آلاف الجثث تتطاير، حيث الانغلاق وانقطاع السلسلة، أكثر وضوحا، أكثر حضورا، مع انهزام اللغة أو تصعيد الحس والشعور الإنساني على مستوى المعمورة. هنا ينتفي الكلام واللغة، والاجتماع والفلسفة والدين، ويفشل الإنسان في تبرير تجربته التي قضاها عبر آلاف السنين: وهنا تنتهي ضمانات البقاء الوجودي المتبادل، فنصبح مخلوقات تتبخر.. بحثا عن فرصة بعيدة تزرع في الفراغ قيما أخرى، ولغة أخرى، وديانات أخرى، وفلسفات أخرى..
*سياسي وكاتب عراقي