أنا بطريقة ما أحبّ الفضاء الافتراضي (الفيسبوك) رغم أنني من الذين لا يحبون الظهور كثيراً، ومن أولئك المتشددين في مراجعة ما يكتبون ويقولون، ومن الحريصين، شأن أكثر من ينتمون عن حقّ أو عن غير حقّ إلى المثقفين، على صورة يتخيلونها لأنفسهم قد لا تنطبق كثيراً مع صورتهم الحقيقية. ورغم أنني لا أشترك في حوارات فعلية مع الأصدقاء. وتفاعلي لا يتعدى الإعجاب! ولكني مع ذلك، أجد في الفيسبوك وسيلةً من وسائل التعرف عن قرب على أناس تحيط بأسمائهم قداسة الانتشار إعلامياً وكتابياً. كما هي وسيلة للاقتراب من الطريقة التي يفكر بها الناس الاعتياديون، وكيف يشاركون برأيهم وانطباعهم في تقييم الأدب والرواية تحديداً. وما دلالات ذلك التقييم ثقافياً.
وما دمت في سياق الحديث عن فاعليتي على صفحة الفيسبوك، فإنني قلّ أن أندفع في متابعة أي تعليق أو إبداء أيّ رأيّ نقديّ في رواية أجد مجموعة من الأشخاص قد تناوبوا عليها ذماً أو مدحاً مع كوني قد بحثت في الرواية تلك تفصيلياً ومطولاً كما حدث مع رواية بتول الخضيري غايب.
وبتول، روائية عراقية وُلدت في الستينيات من القرن الماضي ولها تجربتان روائيتان؛ الأولى (كم بدت السماء قريبة)، والثانية (غايب). الأولى أقرب لسيرة فتاة من أب عراقيّ وأم بريطانية تترافق فتوتها وتفتحها مع حرب الثمانينيات مع إيران وتهاجر مع أمها إلى بلدها الأصلي بعد وفاة الأب. وهي تعبّر عن مأزق الانتماء إلى الوطن وصعوبة تحويل ذلك الانتماء العاطفيّ إلى فعل لظروف العراق التي تزداد تعقيداً وتهاوياً. أما الرواية الثانية فهي عبارة عن وقفة مطولة من مشهد الحصار الاقتصاديّ على العراق في التسعينيات، وما رافقه من تغيرات ثقافية واجتماعية وإنسانية. وشخصية الرواية الرئيسية (دلال)، فتاة فقدت أبويها بحادث سير لتنتقل إلى العيش عند خالتها وزوجها العقيمين اللذين اختارت الرواية اسمها من ابنهما المنتظر. فزوج الخالة يُفضل أن يُدعى بأبي غايب على أن يُدعى أبا دلال. وهناك مشكلة انتماء تكاد حاضرة في أية رواية عراقية يكتبها عراقيّ مغترب، ولكنَّ التعبير عنها في (غايب) جاء، في نظري، مضمراً وقابعاً خلف لوحة موضوعية تتحرك على سطحها مجموعة من الشخصيات التي تسكن عمارة في بغداد، وتتوزع بين زوج الخالة شبه الفنان أو هاوي جمع اللوحات الفنية لفنانين عراقيين معاصرين. والمصور المقعد الذي يعيش على مجموعة من الذكريات. والحلاق النسويّ المخنث. والبصارة التي تأتي إلى العمارة لتستغل الوضع الاقتصادي السيئ جداً للسكان،وغيرهم، فتقدم لهم الخرافة كمخدر لآلامهم. ومن خارج العمارة رجل الأمن الذي يتخفى باسم مستعار، ويتلاعب بمشاعر دلال ويستفيد من الحلاق النسويّ وزبوناته في الحصول على المعلومات الأمنية عن السكان.
وهكذا تبني الرواية نفسها موضوعياً على الحوادث، التي تعود لشخصيات الرواية غير دلال التي تكتفي بالرواية عن غيرها، ولا تكاد تذكر عن نفسها أو مواقفها أو تصوراتها أي شيء، عدا بعض الذكريات التي تعود للماضي، وهي قليلة جداً، لنطّلع على عالم حياديّ يدين الحصار والنظام الذي تسبب به. وبذلك تكاد الرواية واحدة من الروايات النسوية العراقية القليلة التي لا تتخذ الذات ومنظورها وسيلةً لرؤية العالم ونقله والحديث عنه وإدانته.
ولكن ماذا يقول قراؤها الافتراضيون فيها؟
من حيث المضمون الرواية تناقش أحداثاً مملة ومكررة ومقززة، لذا يُصاب القارئ بالكآبة، كما يقولون. وعموماً، والكلام لهم أيضاً، فإن الحديث عن الحصار تكرر في أكثر من رواية، ولم يعد جاذباً للقارئ ولا منتجاً للدلالة.
الشخصيات مشوهة بقصد من الكاتبة، ولا نكاد نجد شخصية خالية من العيوب النفسية أو الجسدية، والغريب في نظر القرّاء، أنه تشويه خالٍ من الدلالة والمعنى.
التمثيل الروائي (والمصطلح لنقاد الراوية وليس للقرّاء الافتراضيين) مبني على فكرة العمارة التي تعادل العالم أو المجتمع، وهي فكرة مستهلكة تكررت في أكثر من رواية.
أعتقد أن سبب تقييم القرّاء الافتراضيين الرواية بهذه الحدة المُستَغرَبَة، وحتى دون قراءتها أحياناً، إنما جاء من أنها تُناقش حقبة الحصار بحيادية وموضوعية تُحسب لها، ولكنها بالمقابل جعلت القارئ يقف أمامها كما لو كان يقف أمام فيلم وثائقي يتابعه بتجرد تام من أية عاطفة، ليشعر بحجم الأثر الذي تركته على المجتمع والإنسان وعليه هو شخصياً. إذ ليس هو ببعيد عهد عنها. وهو ما يجعله يشعر بالمرارة والكآبة.
ومن ناحية أخرى، الكاتبة تفاجئ القارئ بما لا يتوقعه، فهو، وكما اعتاد من قراءة الأدب الذي تكتبه امرأة، يتوقع بوحاً مستمراً وتعبيراً ذاتياً عن المعاناة والآلام التي مرت بها الشخصية الرئيسية في ظروف كالحصار. أما أن تتراجع وتتخفى وراء شخصيات أخرى ذكورية وأنثوية لتعبر عن تفوقها على العالم والثقافة بوصفها ساردة ومطلعة وقادرة على الانتقاء والتمييز والإدانة الذكية، فذلك ما لم يكن يتوقعه أو يقبل به قارئ الرواية الذي شكلته الثقافة التقليدية، بصفته ذكراً يمتلك وحده القدرة على التمييز والحكم والإدانة، وليس لدى الكاتبة سوى الشكوى وإبداء الضعف الذي يحقق له تشفياً مريحاً حال قراءته له. وأشير إلى أن واضع صورة غلاف الرواية على صفحة فيسبوكية متخصصة بالرواية، وكاتب التعليق الأساسي الرافض لها شكلاً ومضموناً هو قارئ افتراضي وليست قارئة. وكان هذا القارئ حريصاً على ردّ أية مزية للرواية على مدار تعليقاته التي كانت تتناوب مع التعليقات الأخرى.
عليّ أن أسأل أخيراً، أيهما أفضل الافتراضي الخجول والفضولي أم الافتراضي الجريء والصريح في التعبير؟
أظن أنهما الاثنان. الثاني ليعبر عن تحيزات الثقافة وعيوبها التي لا يقتصر ظهورها على تعليقات القرّاء العاديين دون النخبة، بل العكس أحياناً. والأول ليكتب عن ذلك وينبه إليه.