«الانتحار الوهمي».. نافذة لهروب الجناة من قصاص العدالة

في زقاق بحي شعبي في محيط مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى، تعالى عويل النساء فجأة، على خلفية انتحار فتاة شابة في مقتبل عمرها، من دون مؤشرات على معاناتها من أزمة نفسية قد تدفعها إلى هذا الخيار المؤلم، لكن التحريات وتقرير الطب العدلي، أظهرا فيما بعد، أنها قتلت بطلق ناري لأسباب عائلية من قبل شقيقها الذي حاول الإفلات من يد العدالة.

وتعد ما يسمى بـ”جرائم الشرف” من أبرز الجرائم التي تلاحق المرأة، حيث يتم قتلها من قبل ذويها في حال اكتشافهم أنها على علاقة برجل خارج إطار الزواج، ولا تتوفر إحصائيات رسمية حول “جرائم الشرف” في العراق، لكونها تشهد تلاعبا كبيرا قبل وصول القضايا إلى المحاكم المتخصصة، ويتم ذلك عبر تغيير سبب الوفاة في شهادات الوفيات داخل الطب العدلي، وغالبا ما يتم غلق الدعاوى في المراكز الأمنية قبل تحويلها إلى الجهات القضائية، كما كشفت “العالم الجديد” في تحقيق استقصائي سابق.

وفي حادثة مشابهة، يسرد الناشط في مجال حقوق الإنسان، طالب حسين، في حديث لـ”العالم الجديد”، قصة شاب عشريني “تم الادعاء بأنه انتحر باستخدام سلاح ناري، ولكن شهادات أقاربه أكدت بأنه لم يكن انتحارا، بل حادث قتل من قبل صديقه”.

ويوضح حسين، أن “الصديق القاتل كان في خلاف مالي مع الضحية، وقام بقتله بإطلاقة واحدة”، لافتا إلى أن “تقرير الطب العدلي كشف عن مسافة إطلاق النار والتي لا يمكن أن تكون ضمن مسارات الانتحار”.

ويلفت إلى أن “تقرير الطب العدلي مهم وحاسم، والأجهزة التحقيقية نجحت من خلاله في كشف طلاسم بعض الجرائم التي قيل في البدء إنها انتحار”.

الحادثتان السابقتان، ليستا الوحيدتين، بل تتكرر مثيلاتهما باستمرار في محافظات أخرى، وبأشكال متعددة ضمن ما يطلق عليه بـ”الانتحار الوهمي”، حيث تسجل حالات القتل على أنها انتحار.

وفي هذا الصدد، يقر مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في ديالى، صلاح مهدي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “هناك العديد من الحالات سجلت ضمن ما يعرف بالانتحار الوهمي، وملخصه هو حوادث قتل متعمدة يحاول الجاني إيهام العدالة والمجتمع بأنها انتحار، لكن التحقيقات تثبت عكس ذلك من خلال مؤشرات تعتمد التقرير الطبي أولا، والتحقيقات الأمنية التي تكون مكثفة”.

ويضيف مهدي، أنه “لا يمكن الآن حسم القرار حيال أي قضية انتحار إلا بموجب قرار قضائي، والذي يأخذ بنظر الاعتبار تقرير الطب العدلي والقوى الأمنية، مؤكدا أن بعض حوادث الانتحار حملت نقاطا مشكوكا بها، لذا يتم التعمق في التحقيقات من أجل الوصول الى العدالة”.

ويبين أن “الانتحار ليس محصورا في محافظة محددة، بل هو موجود في بقية المحافظات ضمن حوادث مشابهة يحاول الجناة الإفلات من قبضة العدالة”.

يذكر أن وزارة الداخلية، أعلنت عام 2022، إحصائية بحالات الانتحار باستثناء إقليم كردستان، بدءا من عام 2015 إلى 2022 حيث بلغ عدد الحالات 376 في العام 2015، وفي 2016 بلغت 343 حالة، وفي 2017 بلغت 449 حالة، وفي 2018 بلغت 519 حالة، وفي 2019 بلغت 588 حالة، وفي 2020 بلغت 644 حالة، وفي 2021 بلغت 863 حالة، وفي 2022 بلغت 1073 حالة انتحار.

من جانبه، يقول النائب عن محافظة ديالى، سالم ابراهيم، في حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “معدلات الانتحار على مستوى العراق مثيرة للقلق، خاصة وأن منصات التواصل توثق في أغلب الأحيان حالات مؤلمة لشباب يحاولون الانتحار”.

ويدعو إبراهيم، إلى “دراسة أسباب الانتحار، والسعي إلى بيان أسبابها التي نرى بأنها غير طبيعية، ولابد من حلول تسهم في الحد منها”، محذرا من “تصديق جميع روايات الانتحار، فربما تكون من بينها جرائم قتل، وهذا الأمر يقع على عاتق القوى الأمنية واللجان الأخرى”.

ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يعاني واحد من كل أربعة عراقيين من هشاشة نفسية في بلد يوجد فيه ثلاثة أطباء نفسيين لكل مليون شخص، في مقابل 209 أشخاص في فرنسا مثلا، مشيرة إلى أن إنفاق العراق على الصحة النفسية لا يتجاوز نسبة 2 بالمئة من ميزانيته للصحة، وذلك رغم حقيقة أنه في مقابل كل دولار أمريكي يستثمر في تعزيز علاج الاضطرابات الشائعة مثل الاكتئاب والقلق، يتحقق عائد قدره خمسة دولارات أمريكية في مجال تحسين الصحة والإنتاجية.

إلى ذلك، توضح باسمة علي، وهي ناشطة نسوية في ديالى، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “صعوبة البحث في ملف الانتحار تأتي من أننا نتعامل مع مجتمع محافظ يتعامل بحساسية مفرطة خاصة إذا كان المنتحر امراة، بطبيعة الحال”.

وتؤكد علي، “توثيق قصص بعض النساء المنتحرات في بعض المحافظات، حيث ظهرت المشاكل الزوجية وتعنيف الأهل والفقر كأسباب مباشرة”، لافتة إلى أن “هناك من وقعت ضحية لعمليات قتل مدبرة وتسجيلهن منتحرات، حيث تم كشف خيوط بعض تلك الجرائم فيما بعد”. 

ولكنها تستدرك أيضا، بأن “حالات الانتحار الوهمي محدودة جدا قياسا بحالات الانتحار التي بلغت مستويات قياسية في السنوات الماضية”.

وشهدت حالات الانتحار في البلاد ارتفاعا في الأعوام الأخيرة، ما عزاه مختصون الى عوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية جمة، من أبرزها حالات العنف الأسري، وحدوث الاضطرابات، والعجز عن ضبط زمام الأمور.

وتعد حالات الفشل في اجتياز الامتحانات الوزارية للصفوف المنتهية “البكالوريا” حالة مصيرية لطلبة المراحل الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، للعبور من مرحلة دراسية إلى أخرى، وعادة ما تحدث أحيانا حالات انتحار بسبب الفشل في تحقيق النجاح بالامتحانات النهائية.

وحول طريقة التعامل مع الإخبار عن حالات الانتحار، يقول مصدر أمني، في حديث لـ”العالم الجديد”، إن “أي حالة انتحار يتم التعامل معها بأنها حالة اشتباه بالانتحار، وبعد استكمال التحقيقات المكثفة، نتمكن من الجزم بأنها كانت بالفعل حالة انتحار، أم حادث قتل مدبر”.

ويشير المصدر، إلى أن “السلطات تأخذ تلك الحالات بعناية من أجل الوصول إلى الحقيقة”، مبينا “هناك مجموعة أسس ثابتة يتم التعامل معها في هكذا حالات من خلال بيان الكيفية والأدوات وتوثيق شهادات المقربين، ومن ثم نقل الجثة إلى الطب العدلي من أجل إعداد تقرير تفصيلي”.

وكان مجلس الوزراء، أقر في أيلول سبتمبر 2023، الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الانتحار (2023- 2030)، المقدمة من المجلس الوزاري للتنمية البشرية، في محاولة للحد من ظاهرة الانتحار.

إقرأ أيضا