صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الانسان والمقدس.. ما شيفرة العلاقة؟!

لا جدل أن العلاقة بين الدين والفلسفة، أو العكس، كان لها تاريخ كبير من الصور والأنماط التي لا تزال تنعكس على واقعنا الراهن، بأشكال أكثر حدوداً وجلاء.

تراوحت تلك الصور بين هيمنة طرف على الآخر أو على شكل التقاء وائتلاف يحاول أن يقلل من قوة الصدام بينهما، بل ويلغي وجوده أصلاً، وجاءت الصورة الأخرى على أنها انفصال لا أصل للقاء فيه ولا أمل في العودة إليه.

تلكم الثلاثية النمطية هي تكرارية لتصورات الفهم الإنساني في كثير من مواقفه الفلسفية من الحياة، بل وحتى الدينية منها. فإما النفي أو الإيجاب أو بين البين.

\”فلسفة الدين\” مصطلح يراد به إمكانية الدرس الفلسفي لمقولة الدين. لكن ما معنى أن نتفلسف حول الدين؟ وهل الدين يتيح ذلك أصلاً؟ وإن كان لا يتيحه، مَن يعطي الفلسفة دور الزعامة والمركزية في استنطاق النص والعقيدة والسلوك الديني استنطاقا عقلانيا؟ وهل من عقلانية في الدين؟ وهل يصح حقاً أن نقول: إن فلسفة الدين هي؛ دراسة اللامعقول بآليات عقلانية؟ وهل سيبقى شيء من الدين في خضم محاكمة العقل؟

كل ما سبق؛ يفتح فضاء فكريا وخاصا بموضوع فلسفة الدين. إنه السؤال الذي يشكل المنظومة الفلسفية. في قِبال منظومة الإجابات التي يشكلها الدين. فبين الشك والدهشة والتأمل والاستفهام المزمن من جهة، وبين اليقين والطمأنينة والقنوع والإجابة اليقينية الإيمانية من جهة أخرى، حجاج سجالي لا حد له.

هنا يبزغ فجر عقل يراد له من جديد أن يعيد إمكانيات خروج الإنسان من قصوره، إن فلسفة الدين بما تحويه من سؤال عن طبيعة الاخير وسلوكه وتقاليده، إنما تعيد هيبة الإنسان الذي ضاع في الميثوس. أساطير قديمة وعصرانية لا حد لجريان انسكابها في الواقع المعاش. في خضم كل هذا يراد لنا أن نستعيد معنى كينونتنا بالسؤال.

السؤال الذي يعني إمكانيتنا على التفكر في قبال ما هو ممنوع، ما هو طابو، ما هو مقدس، بأدوات المرغوب والمباح والمدنس. لكنها صورة متطرفة تلك التي تكتفي بطرف دون آخر، وكذلك هي صورة هجينة عنقائية تلك التي تحاول أن تلائم بينهما! فأين يمكن ويكمن التفلسف حول الدين؟ إنه في السؤال عن ما هو المسُوغُ اليوم لضرورة وجود الدين، وما هي الصورة المطلوبة لأديان الراهن من أن تتشكل فيها؟ وما صورة الدين بعد أن فقد كثيرا من معتقديه على مختلف سبل الحياة، ذلك كالفقدان الذي جعله ينحصر في كونه سلوكا عباديا طقسيا ليس إلا؟!

كل تلك الأسئلة هي: استكناه لمواطن الإجابة في موضوعات فلسفة الدين. على ذلك فصورة السؤال الفلسفي اليوم تخرجنا عن ثنائيات الـ مع/ ضد، وثلاثية الهجنة.

وعليها أن تجعلنا في مقابل ذلك كله، وتمكننا من أن نسائل ونفحص وننقد ونفرغ الميثوس من قساوة اليقين الذي يحمله، لكن ذلك كفيل بالمقابل أن يحدد مفهوم العقلانية واللوغوس حامل السلطة لتلك المحاكمات. أمن معنى اليوم للكلام عن عقل مفارق أو جوهر أو ملكة أو جهاز أو عضو!؟ إن رهان العقل الانساني اليوم هو في الانهمام بمعنى العقلانية وليس جذرها أوعضوها أو أداتها (العقل) كما أنه رهان إمكانية البحث عن معنى للعقلانية.

في خضم تلك المجاهدات يتبدى معنى العقلانية: بوصفها اتفاقات زمكانية تحصل على سلطة معيارية، وذلك المعنى، حقيقة، يتيح أن نفهم الميثوس كونه عقلانية لا زمكانية لراهننا، ومن جهة أخرى؛ العقلانية بهذا المعنى المتعدد لا ترتقي لأن تحصل على تلك السلطة وهنا يبدو واضحا، تناقض أدائي، لكن المَنْفذ من هذه الإشكالية هو في صنع وتحويل المعيار ليصير عمومياً؛ وقد يتصوّر في ذلك عودة لكانطيات جديدة، بل إنّ الأدقّ أنها استدعاء لما هو ضامن وممكن، إنها استعادة واستحداث لما هو ضامن لعلوية القانون وسموه لغرض حماية تلك الاتفاقات، هنا يتضح الاتفاق، العقلنة، بوصفه نزعا للأسطرة من جانب، كما هو نتيجة لما هو مرضي للحجاجات المقبولة، وهو كذلك مقدّمة لصياغة قانونية مصدرها لا ميتافيزيقي.

إننا نبحث اليوم عن عاصم لا إلْهي، إنه العاصم اللائكي (العلماني) وهنا تبدو الصورة وكأنها هيمنة للاديني على الديني! بينما المقصود هو العقلنة الى درجة أن نمضي الى رحاب أوسع من الكبت والضياع والميثوس، إنه المضي نحو انسانيتنا.

هكذا تبدو الأمور وكأنها استنطاق للمضمون الديني، ومحاولة البحث عما هو عقلاني فيه، البحث في الأطر الحافظة لتلك الممارسات التي نبغي ديمومتها بمعول نقدي وواجب تحرري . وذلك بماهيته يجعل المضمون المنعكس على السلوك الديني مسائلا أيضا.

إن الأديان اليوم مطالبة بالحضور على مستوى مقبول أولاً، وتعايشي ثانيا، وأن تجيد التعامل الصورة اللائكية لأنها مكملة لتاريخية تلك الأديان، في كونهما كانا يمثلان لحظات زمنية لوجود الإنسان وبحثه عن خلاصه المستمر.

وذلك، حقا، يجعلنا أمام إمكانية إصدار حكم لجينيالوجيا ظهور مفهوم فلسفة الدين، على أنه ما ارتبط ببداية مساءلة المقول الديني من العقل الحديث (وانطلاقات الحداثة)، وبداية التنوير في مسار من المركزية الإنسانية التي عكست حركة أفلاك الفهم والحقيقة من المتعالي الى المعاش- البشري.

* مدرس فلسفة في كلية الاداب، جامعة بغداد.

إقرأ أيضا