يوشيهيرو فرانسيس فوكو ياما (27 أكتوبر 1952- ……….) كاتب ومفكر أمريكي الجنسية من أصول يابانية. متخصّص في العلوم السياسية. حصل على الدكتوراه من جامعة (هارفارد). عدّهُ الكثيرين بأنه أحد فلاسفة ومفكري أمريكا المعاصرين؛ نظراً لما قدمه من نتاجات كان لها أثراً مهماً في السياسة الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص. كما شغل مناصب ووظائف عديدة ساعدت في ثراء خبرته وثقافته، فجعلت منه مفكراً جديراً بالاهتمام والبحث:
إعلان صدور كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) عام 1992 عُرِفَ فوكو ياما وذاع صيته؛ عندما أوضّحَ نهاية الاضطهاد التاريخي والنظم الشمولية إلى غير رجعة، لتحل محلها قيم الليبرالية والديمقراطية. وترجع أصول هذا الكتاب إلى مقال كتبه فوكو ياما في صيف عام 1989 في مجلة ((The National interest بعنوان (هل هي نهاية التاريخ؟) والذي كانت له ردود فعل كثيرة ومتعددة، نال بها قسطاً كبيراً من الشهرة، واستحوذ على اهتمام إعلامي أغراه ذلك لتحويل المقال إلى كتاب قفز به قفزة كبرى من مستوى الحدث إلى أوسع المفاهيم الفلسفية؛ معتمداً ومتأثراً بمصادر أبرز الفلاسفة، لا سيما (هيغل) أحد أكبر أعلام الفكر الألماني. ويمضي قدماً إلى عمق الفكر الإغريقي؛ فيصل مقدماته الأُولى بثوابت التحليل الأفلاطوني للذات والمدنية والعالم، معرّجاً على (روسو) ونظريته حول المجتمع المدني.
يظهر لنا جلياً تأثُّر فوكو ياما بهيغل في مسألة نهاية التاريخ في النص الآتي لكتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” ص84: “إننا في الواقع مدينون لهيغل فيما يتعلق بالأوجه الأساسية لوعينا الحديث”. وهكذا رمى فوكو ياما أطروحاته بالخانة الهيغلية، لكن تأثره كان من حيث المنهج فقط وليس من حيث النظرية والنتائج. مستخدماً مذهب الديالكتيك الهيغلي بنهايات مفروضة في انتصار الليبرالية الأميركية، مقحماً نفسه بتأويلات لا تتلاءم كثيراً مع الطرح الموضوعي، وتبدو لنا ذاتيةً أكثر تماسكاً، تبرز بشكل فاضح في محاولة منه لجعل النهاية التاريخية مفصّلة أميركياً قلباً وقالباً، يستطيع كل من يقرأها أن يسجل خللاً واضحاً جرّاء التحمس والانحياز التام للنظام الرأسمالي، والنبرة العدائية للأنظمة الاشتراكية على الرغم من مقدماته النظرية. فكان عليه كمحلل سياسي ومؤرخ للفلسفة التاريخية أن يبتعد عن الانحيازية ويمضي في تقديمه للأدلة والبراهين الموضوعية. وإذا رجعنا لنظرية هيغل التاريخية بقراءة فاحصة ودقيقة؛ سنرى أنها تصويراً واضحاً لنهاية التاريخ، وعليه فإنّ فوكو ياما قدّم لنا فكرة هيغلية بحُلَّة أمريكية جديدة، تعكس لنا مقدار التعطش في الخطاب الفلسفي الأميركي إلى إعادة التأسيس في المختلف، والعودة إلى التاريخ الأوربي القديم، كما ذهب قبله (جون ديوي) في تغليف براغماتية وليم جيمس بمثالية أوربية. وكما ذهب (ريتشارد رورتي) إلى التحليل البنيوي الشمولي للابستومولوجيا والانطولوجيا؛ لينهض بمكامن النقص الذي يعانيه الخطاب الفلسفي الأميركي، ليضع نفسه ضمن جيل ألماني قفز بالفلسفة قفزات تمثل نقاط فارقة في الخطاب الفلسفي، من قبيل نيتشه وهايدغر.
الحديث عن نهاية التاريخ يتجدد بين حين لآخر، وأنّ إشارة هيغل إلى نهاية التاريخ عند قيام (الدولة البروسية)؛ فهذا يعني تمجيداً بقوميته الألمانية، وتعبيراً إيديولوجياً صارخاً للبرجوازية، وشعوراً متعالياً قد كلّف الألمان والبشرية في النهاية كوارث عدّة، عندما استغلها وطوّرها أدولف هتلر(1889-1945) ليصل بها إلى تفوق الجنس الآري الجرماني على باقي الأجناس الأخرى التي أنجبتها الطبيعة. ومن هذا نرى أنّ فوكو ياما انطلق بفكرته من منطلقات قومية وذاتية وإنْ كانت تبدو للكثيرين عكس ذلك من حيث المنهج العلمي والموضوعي للطرح النسقي الفوكو يامي، ونحن لا ننكر هذا، بل على العكس، نثني عليه، ولكن النتائج الحاسمة للتاريخ لا تجعلنا نذهب باتجاه حتميته بهذه الطريقة؛ فالنظريات العلمية وحتى الفلسفية منها لم تكن تتخذ مثل هذا الطرح، وكانت النسباوية والمتوسط الإحصائي هي النتيجة المتفق عليها من الجميع، على الرغم من أنّ فوكو ياما قبل إعلانه بما توصّل إليه من نهاية تاريخية للديمقراطية الليبرالية الأميركية؛ قد أقحم نفسه في الخانة البوبرية النسباوية، إلاّ انه قد تجاوزها وذهب أبعد من ذلك متوقعاً نهايتها يوم ما.
على الرغم من أنَّ الديمقراطية الليبرالية هي النظام السياسي المتماسك الذي يتطلّع إليه المؤمنون بالحرية؛ إلاّ إننا نرى أنّ ما قدّمه هيغل وكذلك فوكو ياما من نظريات لنهاية التاريخ؛ تحملُ تشابهاً في مَن سينتهي إليه التاريخ على وفق تحليلات وأحكام قبلية- رغم استخدام هيغل لمقدمات منطقية- مع فارق في التسميات؛ فالأول يشير إلى البرجوازية والدولة الألمانية والثاني إلى الرأسمالية الأمريكية- بنمط أمركني ياباني- فنرى هيغل في كتابه ” العقل في التاريخ، مج1″: يقر من أنَّ تاريخ العالَم يتجه من الشرق إلى الغرب، لأنَّ أوربا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق، وأنَّ الشرق لم يعرف، ولا يزال حتى اليوم لا يعرف سوى شخصاً واحداً هو الحر، أما اليوناني والروماني فقد عرف أنّ البعض أحرار، في حين أنّ الجرماني عرف أنّ الكل أحرار. ونرى فوكو ياما يتحرك بقصدية عقائدية قبلية، وبغائية إيديولوجية استخدم بها جانباً سيكولوجياً من حيث التأثر والتأثير، لا تترك لنا أحياناً كثيرة حيّزاً نستدل به؛ لكثرة وأهمية الطرح الذي استدل به بأسماء فلسفية كبيرة- لا يجرأ أغلبنا نقدها- لعبت دوراً هامّاً في صياغة مقدماته المنطقية، ليجعلها مرتكزات نهائية في وصف النهاية التاريخية للبشرية، تلك النهاية التي يريدها حقيقة تسليمية لا تقبل المراجعة والاستدلال.
إنّ انتشار النظرية العنصرية في أوروبا، والتي أدّت إلى إلغاء حق الشعوب الأخرى في الوجود، وعدَّهُم شعوب همجية متوحشة وغير متحضرة، ما هي إلاّ نظرية مغلوطة أنثروبولوجياً، فلم يقرّها علم الاجتماع الحديث، وليس لها صحة من الناحية العلمية، فالمدنية لا تتوقف على جنس دون آخر، فقد قامت حضارات عظيمة تفَوّقت على أوربا لفترة طويلة مِن الزمن، كما أنّ مِثال (اليابان) أثبت خطأ جميع النظريّات التي تتحدّث عن التفوّق الأوربي الطبيعي، وإنّ بطلان هذه النظريّات العرقيّة يثبت بصورة كاملة عندما ننظر إلى الأهمّية الثقافية والاقتصادية التي يتمتع بها (اليهود) في أوربا وأمريكا. فأنّ طبيعة البشر هي واحدة في كل زمان ومكان، والاختلاف بينهم يرجع في الغالب إلى اختلاف في تكوين المجتمع الذي ينشئون فيه، بحسب ما يذكره جرجي زيدان في مؤلفه “ تاريخ التمدّن الإسلامي، ج4، إضافةً إلى أنّ الطبيعة البشرية كغيرها مِن ظواهر الكَون تجري حسب نواميس معيّنة لا يمكن التأثير بها أو تغييرها قَبْل دراسة ما جُبلت عليه تلك الطبيعة مِن صفات أصيلة؛ لأنّ الإنسان جزء لا يتجزّأ مِن الطبيعة المحيطة به ولا يمكن التأثير عليه وتغييره بمعرفة نقاط عجزه مِن خلال إطلاق الأحكام والأسباب بشكل تعميمي بدون دراسة مسبقة لطبيعته.
يذكر لنا فؤاد النمري، في مؤلفه “جديد الاقتصاد السياسي”: بعد انهيار الاتحاد السوفيتي راح الكثيرون يفقدون صوابهم، ويعدّون ذلك انتصاراً حاسماً ونهائياً للرأسمالية، وما هي حقيقة إلاّ انهياراً عالمياً لها. فليس بمقدور فوكو ياما أنْ يتجاهل ما توصّل إليه كارل ماركس في تحليله التاريخي لنموذج الإنتاج الرأسمالي- الذي سيطاح به في النهاية-، ويذهب منتشياً مزهواً بما توصَّل إليه من تحليلات تجعل من الرأسمالية المعولمة آخر مراحل تاريخ الإنسان. وهنا نتساءل: أي إنسان يقصده فوكو ياما؟ هل هو الذي يتوقع له بنياناً اجتماعياً مختلفاً حين تتدخل العلوم التقنية البيولوجية فتغيّره؟ فهذا الإنسان المعاصر لابد أنْ يكون متوحّشاً حتّى يتوافق مع هذا النظام الرأسمالي الذي يسمح لشريحة محدودة من المجتمع أنْ تقهر بقية شرائحه وتخضعها للحرمان من متطلبات العيش البسيطة.
لقد قامت الرأسمالية على قاعدة تقسيم العمل الاجتماعي: طبقة تعمل وأخرى تملك، دولة تملك وأخرى تستهلك، دولة تصنع وأخرى تزرع. فقام تفتّحها وازدهارها من خلال المعرفة التي تميزت بها مجتمعات عن أخرى. أما العولمة فليس في مفرداتها أي هيكلية للمجتمعات أو أي تمايز للسيادات الدولية أو الحدود القومية؛ فهي قد تهيكلت في مركز واحد وأطراف عديدة، وتفتقد لأي هيكل يعطيها شكلاً محدّداً، وبالتالي فهي دراسة للقوميات، وإطارها المعرفي هو شيوعية المعرفة التي جاءت بخلاف ما تؤسّس له منظمة التجارة العالمية لتشريع “حق الملكية الفكرية”؛ إذ بدون معرفة شاملة لمختلف نواحي الحياة لن تستطع المؤسسات الرأسمالية الانتقال من مراكز متقدمة معرفياً إلى أطراف متخلّفة فيها.
إذا نظرنا إلى وسائل الإنتاج- والكلام هنا لا زال لفؤاد النمري- فسنجدها هي مَن يعين النظام الإنتاجي وعلاقاته، وليس الايدولوجيا والرغائب؛ فنجد الكثير مَن اعتقد أنّ نظام الإقطاع هو نظام أبدي ونهائي للتاريخ، وخاض نبلاء أوربا حروباً طاحنة من اجله؛ إلاّ أن هذا الوهم ألاعتقادي والرغائبي لم يستجب له التاريخ، وكان أقوى من سلطانهم. كذلك النظام الرأسمالي الذي حل محل الإقطاعي فلا يزعم انه نظام ابدي ونهائي للتاريخ، وان وسائله لن تتغير كما يعتقد فوكو ياما؛ لأنّ الإنسان لن يتنازل عن مهامه الأولى في تطوير أدوات الإنتاج وتغيير وسائله التي ستقيم نظاماً جديداً للإنتاج وعلاقاته.
إنّ القيم الديمقراطية الليبرالية التي يحاول فوكو ياما تصويرها على أنّ أميركا ستكون الراعية الأولى في تصديرها لبناء المجتمعات الأخرى؛ لهي تمثل انقطاعاً تاماً مع واقع الدول التي يسميها فوكو ياما بـ”الضعيفة” أو دول العالم الثالث؛ فالموروثات العديدة والمتنوعة لهذه الدول لم تزل تتفاعل بحيوية ونشاط في ذوات معتنقيها. فالشكل الديمقراطي مرتبط بمضامين تمثل جملةً من المفاهيم، وتشكّل نسقاً متكاملاً. ولا يمكن بأي حال أنْ أقوم بتصدير الشكل فقط وأُوهم هذه الدول أنهم مع الممارسة الطويلة سيجنون مفاهيماً ديمقراطية ليبرالية حر. فمن المؤكّد أنّ القطيعة التامة مع هذه الموروثات واستبدالها بأخرى مغايرة لا تجدي نفعاً وسيدفع الجميع ثمنها. ونحن هنا ننطلق من قراءة فلسفية لأبرز المجدّدين الإسلاميين وهو “محمد باقر الصدر” في مؤلفه (التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي) التي ترى أنّ التفسير الموضوعي لأي ظاهرة هو عندما يلتحم مع واقع الحياة، وبغيره سيكون عملية منعزلة عن الواقع، فلا بد من تفعيلها في حركة الحاضر ومعايشة الواقع، ونبحث بوعي لسد الفراغات بإنتاج وابتكار جديد، فالتحرر من التجارب الماضية لا يعني إهمالها بالكامل، بل إعادة بناء العلاقة مع الواقع بقراءة متجدّدة وواقعية بالتحرّر من نصّيّتها الجمودية. فالقراءة المتوازنة لأي ظاهرة تبدأ من الواقع المعاش وتنتهي بالإفادة من تجارب الماضي. كما ننطلق أيضاً من رؤية فلسفية لمارتن هايدجر في مؤلفه (الوجود والزمان) والتي ترى أنّ العزم الراجع القهقري إلى الذات إنّما يتحوّل إلى معاودة لإمكانية وجود متناقلة، فإنّ المعاودة هي التحرير الصريح للتراث. فـالمعاودة التي يقصد بها “هايدجر” تتزاحم على ثلاث معاني هي: التراث ونقل التراث وتحرير الإرث الذي فينا.
ولكي تنمو قيم الديمقراطية الليبرالية في مجتمعاتنا نحتاج إلى تصالح حقيقي من الداخل، مع ذواتنا، إلى إعادة بناء العلاقة مع الآخر المختلف من خلال الإرث السياسي والثقافي الذي يجمعنا، أنْ نسمو بأنفسنا حسب ليبرالية الفيلسوف الأميركي اليساري المعاصر “نوم تشومسكي 1925-…..” – في كتابه (النظام العالمي القديم والجديد) والذي تعود أفكاره إلى جذور التنوير والليبرالية الكلاسيكية- صوب تسامح حقيقي وتعددية تحكمها الأصالة والتجذّر التاريخي، أنْ نؤمن نظرياً وعملياً مع الآخر المختلف أننا جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات، ومن حقنا التطور والرفاهية. وبالتالي نحن أمام طروحات الفيلسوف الألماني المعاصر”هابرماس 1929-….” الحداثوية التي لم تكتمل بعد.
شروط مدنية الدولة وتحديث النظام السياسي الاجتماعي يعتمد على ركائز تكوينية تنْصَب بمجملها على تعليم الفرد حقيقة واحدة؛ وهي أنه مجرد فرد في مجموع، وهذا يتطلب معرفة حدود الأنا واحترامها من خلال احترام الآخر بالضوابط نفسها، وهذا الاحترام المتبادل هو الذي يبني الحرية ويؤسس للسلام، ليضمن للأنا عدم اختراق حدودها، كما أنّ الاحترام والتحدد الموضوعي سينتقل إلى قاعدته المجتمعية الكبيرة بكل ما فيه من دقه ليعكس وجهة نظر جماعية تؤسس لعلاقة مجتمعات وحضارات. وكل ما بنيت العلاقات الاجتماعية على هذا الفهم قلّت الحاجة لمنظومة متشددة من القوانين. وبالتالي سنجد أنفسنا أمام التزام طوعي إنساني أخلاقي “كانطي” بالقيم والمحددات التي تبني ثقافة المسئولية الذاتية بدون مراقبة خارجية، أمام نظرية تحثنا على أداء واجباتنا والتزاماتنا الأخلاقية على الشكل الأمثل بدلاً من الانسياق وراء أهوائنا وميولنا، ليشعر الإنسان في الآخر أنه قائد اجتماعي، وفي الوقت نفسه عضواً في فريق متكامل يبني وينتج بإيمان أنَّ ما يفعله هو مكسب ذاتي له قبل أنْ يكون مكسب جماعي. فالفعل الأخلاقي يرتبط بإيمان الإنسان بذاته وقدراته بمعزل عن أي شيء آخر. فقد مثّلت “فكرة الواجب الكانطية” نقطة فارقة في تحوّل المجتمعات نحو المدنية لحملها مفاهيم ساهمت بشكل كبير في تنامي الفكر الغربي بدءاً من عصر النهضة مروراً بعصر التنوير حتى يومنا هذا بانتقال المجتمعات الأوربية من عصر كنسي مظلم إلى عصر حضاري مشرق.
إنّ تصوير فوكو ياما على تركيز الولايات المتحدة حيال التعامل ابتداءً مع الواقع الأكثر احتياجاً للمجتمعات المظلومة والمسحوقة من قبل أنظمتها، دون التفكير بوضع نظم كفيلة بحل المشاكل الأخرى بترحيلها إلى أمد بعيد؛ لهو تفكير ميتافيزيقي حسب اعتقادي مبني على عصا سحرية مغلفة ومشرعنة بديمقراطية مستوردة وضعت لمجتمعات غربية معينة تعتبر نفسها هي التاريخ وهي النهاية الحتمية له دون أنْ يشاركها أحد. كما أنّ التخلص من السلاح النووي المدمر والشامل الذي يشكل تهديداً لأمن العالم- خصوصاً الأوربي- ويعد سابقة خطيرة في التاريخ الغربي؛ لهو يمثل نظرة تعسفية ونزعة استعلائية أرستقراطية غير نبيلة! وكأنّ بقية دول العالم بما فيها العالم الثالث غير معنية بهذا الأمان وليسوا بشراً، ووحدهم الغرب من صنف الإنسان الذي يمشي على قدمين ذو العقل المتطور، وذو الوجنتين الحمراويتين!!
ربما هناك مَن يرى أنّ طروحات “فرنسيس فوكو ياما” السياسية تدْخل في سياق الترويج للاستعمار الامبريالي الكولونيالي الجديد. وحقيقة الأمر يبدو هنا أنها طروحات تقترب كثيراً من هذا الرأي، ولكنْ من جانب معين يبرز من خلال التنظير الفوكو يامي في التدخل لتغيير وبناء الدول الضعيفة والفاشلة والتسلطية كما حدث فيما يسمى بـ”ثورات الربيع العربي” وقبلها في هايتي وتيمور الشرقية والصومال. فالكولونيالية هي استعمار غير مباشر عبر أجندات خاصة تهدف إلى غايات امبريالية دون أي تدخل عسكري. أي ضبط ومعرفة المجتمعات من الداخل لغرض تأمين وتسهيل عملية السيطرة الاستعمارية عليها كبديل عن الأسلوب العسكري الذي ربما يكلّف الشيء الكثير للمستعمر. لكنّ فوكو ياما يقر بالتدخل العسكري واستعمال القوة في حالة وجود خطر ما يمكنه الوصول إلى قلب العالم المتطور. كما هو الحال في دول مثل أفغانستان والعراق وما أشيع من امتلاكهما للإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.
يرى البعض أنّ فوكو ياما قدّم لنا أفكاراً منظمة ومتصلة بعضها البعض بتصورات بدت لنا تدريجية، واضحة ومنسجمة: تاريخية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية، تهدف إلى الانتصار للنموذج الديمقراطي بِعدّه فيلسوف النسق والتواصل، الذي يذكرنا بفلاسفة كبار حفروا أسماءهم في تاريخ البشرية، من قبيل أفلاطون وأرسطو وهيغل وكانط. ويرى البعض الآخر أنه لا يرتقي بطروحاته تلك إلى المستوى الذي حققه ديوي وراولز ورورتي في بناء مذاهب فلسفية متماسكة؛ إذ إنّ فوكو ياما- وبحسب مطاع صفدي- يقدم لنا تحليلات وحجج تبدو ذا فائدة في سجالات الخطاب السياسي اليومي، مزج فيها الخطاب السياسي الإعلامي بمفهوم الفلسفة الشمولية، ليوقع لبساً عند منتقديه؛ فاختار في خطابه التصعيد ليبلغ أعلى مراتب العقلنة التي تحاكي الكينونة وخاتمة التاريخ.
بدا لنا الطرح الفوكا يامي بعيداً كل البعد عن (الواقعية النقدية) التي تقوم على الفحص والاختبار النقدي للمعطيات التاريخية ومناقشة الأدلة والبراهين المضادة لتكوين نتائج منطقية متسقة، وسنأخذ نصّاً بسيطاً من فوكو ياما حول كلامه عن الواقعية: “كان الكثير من المراقبين المتخرجين من المدرسة الواقعية يتنبئون جميعاً بأن “غورباتشوف” سوف لا يسمح أبداً بتحطيم حائط برلين…”. ما نسجلّه هنا أنّ نص فوكو ياما بدا أقرب إلى الواقعية الساذجة التي تطلق أحكامها حسب المدركات الحسية المباشرة، أحكام تنبؤية دون الفحص والبينة؛ واقعية سابقة على مرحلة التفكير العلمي والفلسفي، ونحن نذهب مع مطاع صفدي في أنَّ فوكا ياما استخدمَ أحياناً كثيرة انتقائية تجزيئية ليطلق أحكامه باستعجال مسبق، منساقٌ لـ(رغبة تيموسية) بتفسير الأحداث قبل أنْ تتكشف حقيقة عن خلفياتها، فتقع الكتابة في مسار الإخبار التأويلي.
هذه النظرة التي تشبه إلى حد معين ما كان يقصده هيغل في أنّ أوّل نظرة إلى التاريخ تقنعنا أنّ أفعال الناس تصدر عن حاجاتهم وانفعالاتهم ومصالحهم الخاصة. ولكنْ، هناك فارق كبير بين ما يريده هيغل باشتراط الحرية واستقلال الوعي، وبين ما يريده فوكو ياما من انتصار لطبيعة الإنسان الغريزية، هذه النظرة التيموسية الإحيائية لاستحضار فكرة النهاية التاريخية، والمؤطرة بأفكار وأطروحات أفلاطونية وهيغلية ونيتشويه وماركسية، وأخيراً بالبوبرية للخروج من الأزمة بطريقة الخاسر الأقل؛ تلوّح بالنهاية بطريقة أو بأخرى للرجوع إلى “فكرة ذئبية الإنسان الهوبزية”، بطريقة التأثير الانفعالي على القارئ، وإملاء الفراغ الأيديولوجي الناجم عن تهاوي جميع الأنظمة والعقائد السابقة، من خلال استخدام النصوص التبسيطية والانتقائية بشكل سردي مكرر وبدورة حلزونية دون إضافة شيء جديد، واختزال وتجاهل كل ما يتعلق بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية. على الرغم من أنه يلوّح بين الحين والآخر إلى أفلاطون والفلسفة النيتشوية من خلال مفهوم الاعتراف والإنسان الأخير. ولكنْ، هذا لا يعني أننا نبخس حق هذا المفكر وما قدمه من نتاجات؛ فيبدو لنا وعبر عصور مضت، تعاقب على تسيدها الفكري والفلسفي شخصيات كثيرة لم يرتقي التجاوب معها لعقود طويلة، وظلت تهاجم وتلاحق وأحيانا تتهم ويجري عليها عمليات تسقيط وقتل، نظراً لتحكّم أيديولوجيات متفاوتة على التاريخ الإنساني، ولم يُعترَف بهم إلاّ بعد أنْ تصبح كتاباتهم وأفكارهم في أغلب الأحيان طي النسيان، أو بعد تغيرات التاريخ المفاجئة وغير المفاجئة، فتنهال حولهم الترجمات والدراسات في شتى بقاع العالم. وربما اليوم نرى مَن يحاول أنْ ينال أو يسقط أو يقلل من طروحات فوكو ياما – إضافة إلى مجموعة اليسار في الإدارة الأميركية- وهو أمر يبدو اعتيادياً، ولكننا لا ندري إضافة للسمعة والإعجاب الذي ناله؛ لربما يكون لهذا المشاكس الذي رمى بأسلحته الديمقراطية الليبرالية شأن كبير في المستقبل. ونحن هنا لا يعني أننا نُنَظِّر لهذا المفكر الأميركي الياباني الأصل بقدر ما نحاول مع الكثير من الانتقادات التي وجهناها مع آخرين له أنْ نكون منصفين أمام رؤى لا زالت طرية لم يمر عليها عقدين من الزمن، وأمام نظريات ربما تصيب وربما تخطأ. ولا أعتقد أنّ فوكو ياما بحسب تصريحاته العديدة مستبداً بآرائه لدرجة أنه لا يقبل النقد والتعديل.
إنّ مشروعية القضاء على الدول التي عدّها فوكو ياما بالمتسلطة والاستيلاء عليها للأسباب التي ذكرناها في المسألة السياسية من هذا البحث لهي تمثل حلولاً نظرية حسب اعتقادي، ولا زالت تمثل حالة تناقض على الأرض عملياً بين استعمار الآخر المختلف من جهة وبين الشعار الليبرالي المرفوع والمنادي بإحلال الديمقراطية والحرية والتعددية وحقوق الإنسان. كما أنّ إتاحة فوكو ياما للغرب بالتدخل لتغير الأنظمة السياسية التي يرى أنها تنتهك حقوق الإنسان أو امتلاكها أسلحة دمار شامل، من أجل حماية أميركا ومواطنيها؛ يعد تدخلاً بسيادات الدول؛ فمن أين له الحق في تصنيف هذه الدول كما يشاء ؟ على الرغم من أننا لا نتوافق مع الأنظمة التسلطية والإرهابية، لكنّ المسألة تعد “نسبية” من جهة إطلاق الأحكام. فلكل دولة تبريراتها وأسبابها في امتلاك ما تمتلك، ومن حق الدول أنْ تدافع عن أنفسها دون الاعتداء على الآخرين. فهل يمكن أنْ أبيح لنفسي امتلاك كافة أنواع الأسلحة ولا أبيح لغيري ذلك؟ فمن خلال هذا التحاجج تظهر لنا فكرة الاعتراف والتيموس المتداخلة في ثقافات واديان وقوميات الشعوب، ويبدو الأمر متشعباً ووشيكاً للغاية؛ فحلول فوكو ياما لا تزال تراوح في ما انتهت إليه طروحاته في النهاية التاريخية والإنسان الأخير، ولا زال الطرح حسب رأيي المتواضع يحتاج إلى “فكرة” جديدة تخرج فوكو ياما من المأزق الذي وضع نفسه فيه، على غرار فكرة “العود الأبدي” التي طرحها “فردريك نيتشه” للخروج من فكرة الإنسان الأعلى “السوبر” التي بشّر بها، ويحتاج إلى “زرادشت” ثاني يبشر له بنظام عالمي جديد بعد إكماله للطرح النسقي. نظام لا تحكمه صيرورة نهائية، مقسم إلى دورات، كل شي يغدو وكل شيء يعود والى الأبد تدور عملية الوجود، نظام طبقي حسب سمو ورقي الإنسان، لأنّ تحقيق الديمقراطية والمساواة بين الجميع أكذوبة في وجه الطبيعة.