في بادية السماوة، أكبر صحارى العراق، يعبّ عيدان٫ المكنى أبو أحمد (67 عاما)، رئته بالدخان قبل أن يقول لـ”العالم الجديد”: “توارثت هذه المهنة عن والدي في السبعينات٫ في تلك الفترة لم تكن هناك أسواق خاصة بتجارة الكمأ٫ ولا وسائل نقل إلا عند بعض العائلات من البادية التي تمتلك سيارات حمل أو تجار من مناطق مختلفة ينقلون الكمأ إلى علوة جميلة ليوزع للأسواق الأخرى في المحافظات٫ وربما إلى دول مثل سوريا”.
ويضيف عيدان٫ إن “تسهيلات كبيرة كانت تمنح للتبادل التجاري مع دول الخليج عبر المنافذ مثلا يحدث التبادل بشكل مباشر إلى منطقة حفر الباطن الحدودية مع السعودية”.
“لم يكن الكمأ معروفا من قبل، أعداد قليلة كانوا يهتمون بجمعه، ثم بدأت الأعداد تزداد سنويا حتى أصبحت له أسواق موسمية في نواحي بصية والسلمان ومراكز أخرى”، يشرح عيدان.
مثلما ينقّب الآثاريون بحثاً عن كنز في الصحراء، يحمل أموري عيدان منجله ليغرسه في التربة بحثاً عن شيء آخر، يستبشر وجه عيدان عندما يجد كنزه الخاص، إنه “الكمأ”، النبات الذي استعار شكل البطاطس وطعم اللحم.
ناحية بصية المطلة على الصحراء جنوب غربي العراق والمحاذية للسعودية هي إحدى نواحي قضاء السلمان في محافظة المثنى، وتعد من أكبر نواحي البلاد من حيث المساحة.
ويرتفع المستوى المعيشي لجامعي الكمأ خلال الموسم الشتوي الذي يبدأ من كانون الأول ديسمبر حتى آذار مارس، وكما يقول عيدان إن “هذه المهنة لا تعتمد أي تنظيم أو تدخل بشري، هو رزق من الله والصحراء للجميع”.
ولا يشجع أبو أحمد على استثمار بادية السماوة لأنها “رزق لي ولعائلات عدة من مناطق مختلفة يخيمون هنا طوال هذا الموسم”.
ويؤكد أن “الكمأ ثمين، وغالبا لا يستطيع الكثيرون شراءه٫ لاسيما النوعيات الجيدة منه، أما ما تأكله الطبقة الفقيرة هو من النوع الناعم المسمى (بسالة) الذي لا يحظى بطلب بسبب صغر حجمه جدا واحتوائه على كمية من الرمل، ويبلغ متوسط سعره ألفي دينار”.
ويتحدث عيدان عن كرم أهل البادية في استقبال المخيمين وجامعي الكمأ والصيادين٫ إذ يقول إن “تسهيلات يقدمها أهل البادية لضيوف الصحراء كمساعدتهم لمعرفة الطريق وتوفير المبيت, ما ساهم بوجود علاقات وصداقات عائلية تمتد لسنوات وتجدد الزيارات المتبادلة حتى في فصل الصيف”.
ويتوقع أن يكون هذا الموسم غنيا بسبب الأمطار التي هطلت خلال الفترة الماضية، يقول “ننتظر من 45 إلى 60 يوماً بعد بداية المطر ثم نبدأ بالجمع”، مشيرا إلى أن “الكمأ يبقى رزقا٫ سواء أكان موسما ماطرا أم لا”.
وعن أنواعه يؤكد الرجل الستيني٫ أن “منه الزبيدي ويكون ذا لونين أبيض وأحمر، وفي نهاية الموسم يظهر نوع أسمه (أرجواي)٫ وهو أطيب أنواع الكمأ٫ ويكون لونه أبيض، ويباع الكيلوغرام منه بـ80 ألف دينار (نحو 55 دولارا) على الأقل، ويصل سعره في دول الخليج إلى 100 دولار أمريكي”.
ويلفت عيدان إلى أن “النساء يمتهن جمع الكمأ أكثر من الرجال”، مشيرا إلى أن “الصحراء وطبيعتها هي تحد صعب يواجهنه، فلا تأتي غير ابنة الصحراء لممارسة هذه المهنة٫ كونها معتادة على صعوبة البيئة والبرد”، مؤكدا أن “البدو الرحل أيضا يقومون بجمع الكمأ في الموسم، وكذلك تجيء عائلات من المدن والأرياف ثم يعودون إلى مصالحهم عند انتهاء الموسم”.
وعن المخاطر التي تواجه جامعي الكمأ، يفيد عيدان٫ بأن “حوادث السير هي أكبر المخاطر بسبب السرعة ووعورة الطرق والجهل في التعامل معها”، لافتا إلى أن “وجود الألغام يتسبب بإزهاق أرواح كثيرة ممن لا يعرفون المساحات الخطيرة التي غالبا ما تكون مملوءة بالكمأ”.
ويعدّ العراق واحدًا من أكثر بلدان العالم الَتي يتواجد فيها الكمأ، إذ يتوفر بكثرة في حقول الصحراء الغربية وبعض مناطق وسط وجنوب البلاد، مطلع موسم الربيع من كل عام، وفي حال كانت هناك أمطار غير مصحوبة بالبرق والرعد فلا تجدي نفعاً في نموه، أي أنّ السبب المهم في وجود الكمأ هو حدوث البرق الذي يعمل على إظهاره على شكل تشققات على سطح الأرض.
وتبدو مسحة من الحزن على وجه سميرة حمدان المعروفة بأم توفيق (57 عاما)، عند الحديث عن استثمار الصحراء، وتقول لـ”العالم الجديد”: “نجمع الكمأ منذ طفولتنا، نتجول مشيا للبادية ونبحث عنه، سأحزن لأي تغيير يحدث في البادية، أحب أن تبقى كما هي، فالمشاريع التي يتحدثون عنها تغير من بيئتنا للأسوأ”.
وعن تحضيراتها لمواسم جمع الكمأ، تضيف “نقوم بتحضير المخيمات والطعام٫ ونقوم بصناعة أكياس خاصة نخيطها يدويا تحتوي على ثغرات٫ لأن الهواء يجب أن ينفذ منها كي يبقى الكمأ طازجا”.
عند تفطر الأرض٫ معلنة عن حملها بالكمأ فإن أم توفيق٫ لا تخرج وحدها٫ بل مع باقي آفراد العائلة، وتقول: “نتفق مع عائلات من أقاربنا ونخيم معا بأماكن قريبة٫ فيصبح الموسم أقل تعبا”، مؤكدة أن لديها “خبرة، أعرف جميع المناطق التي ينمو فيها الكمأ, لذا يكون نصيبي اكبر من غيري”، مشيرة إلى أن “المنطقة تقسم إلى قسمين، الحجرة والسهل، وكمأ الحجرة مرغوب أكثر لأنه كبير الحجم ومقاوم للخزن, وكمأ السهل اقل جودة ولا يتحمل الخزن مده طويلة لأنه يذبل بسرعة”.
وعن تسويقه، تذكر أن “التجار يدورون في البادية ليأخذوا ما نجمع، وهذه الطريقة أفضل لنا ولهم، ثم يذهبون به إلى الأسواق الخاصة به وتبدأ مزايدة تجارية على أسعاره”.
وتؤكد أم توفيق أن “النساء يمتهن جمع الكمأ أكثر من الرجال فهم منشغلون بأعمال أخرى”، مؤكدة أن “جمع الكمأ ليس صعبا، بل على العكس إنه عمل ممتع٫ فهو نشاط في البر المفتوح والهواء النقي٫ ويشهد اجتماع النساء مع بعضهن٫ سواء كن أقارب أو صديقات من مناطق ومدن مختلفة”٫ في طقس اجتماعي جميل بالنسبة لهن.
فيما تشير إلى أنهم يعتبرون “السياح ضيوفا، نقدم لهم أي مساعدة يحتاجونها٫ ويصبح هناك جو من المودة، وتتكون صداقات مع كثير من النساء”.
جدير بالذكر، أن بادية المثنى، التي تعد من أكثر المناطق تلوثا بالألغام، التي تقتصر على قنابل عنقودية غير منفلقة، تسببت بقتل 1600 شخص٫ وإصابة الآلاف خلال الـ31 عاما الماضية، وفقا لمسؤول في المحافظة.
من جانبه، يعرف الناشط البيئي أحمد حمدان الجشعمي، خلال حديث لـ”العالم الجديد” الكمأ بأنه “أشهر الفطريات وأكبرها قيمة غذائية وأغلاها ثمنا، يسمى عند البدو باسم الفقع أو الفكَع بالكاف الفارسية، وينمو بشكل طبيعي في صحراء العراق وبعض الدول المجاورة والمغرب العربي”.
ويضيف الجشعمي٫ أن “الكمأ يختلف حجمه ولونه وطعمه تبعا للترب التي ينمو فيها وكمية الأمطار المصاحبة للبرق والرعد، لحاجته للنتروجين الذي تحدثه البروق والنازل مع حبات المطر الساقطة ما يساعد كثيرا في نموه بسرعة كبيرة”.
ويؤكد أن “الكمأ يعد موردا اقتصاديا لسكان البادية بالرغم من قصر دورة حياته التي تبدأ من شهر كانون الأول ديسمبر وحتى نهاية آذار مارس من كل عام، وتنتج بادية السماوة آلاف الأطنان منه في سنوات الوفرة٫ ويتم تسويقه عادة إلى مدن السماوة (مركز محافظة المثنى)٫ وبغداد والزبير (جنوبي محافظة البصرة)٫ فضلا عن كونه مادة غذائية أساسية لوجبات الأهالي في بصية والسلمان (مدن بالمثنى) في مرحلتي الإنبات والتسويق”.
وبشأن آلية تسويقه، يذكر الناشط البيئي٫ أن “التسويق يتم عن طريق السيارات بعد أن يحفظ في صناديق مثقبة لغرض دخول الهواء، وهذه الصناديق تغطى عادة بالأكياس المعروفة بالشوال٫ لضمان عدم جفافها، وغالبا ما يتم النقل في الليل أو الفجر وقبل بزوغ الشمس لضمان وصولها إلى منافذ البيع بشكل سليم”.
ويعيد الجشعمي الحديث عن مخاطر تعرض بعض الشباب والنساء إلى “انفجارات الألغام المزروعة سابقا والقنابل غير المنفلقة المنتشرة في الصحراء والتي تتخفى خلف الأعشاب والحشائش”، مؤكدا أنه “بالرغم من الجهود الناجحة للمنظمات العالمية التي تحاول إزالتها إلى الآن ، فان بصية وما حولها تفقد العشرات من الناس سنويا بسبب انفجار المقذوفات الحربية الأمريكية المطمورة في الترب الصحراوية”.
ويكمل أن “من المخاطر الأخرى هو التيه في الصحراء، كذلك وجود بعض الحيوانات المفترسة كالضباع والذئاب التي تفترس الناس إن كانوا فرادى وليس مجاميع”.
ويتوقع الجشعمي، أن “ينضج الكمأ قبل الثاني عشر من كانون الأول ديسمبر، ويكون موجودا في الأسواق بنهاية الشهر نفسه”، لافتا إلى أن “صحراء السماوة تساقطت فيها الأمطار ثلاث مرات خلال شهر تشرين الثاني نوفمبر كل مرة بفارق أسبوع واحد، ورافق المطر، البرق والرعد المفيدان لظهوره، لذلك نحن نتوقع أن تظهر بوادر الكمأ في الأسواق خلال الأسبوعين القادمين”.
ويستخدم الكمأ أيضا في صناعة مختلف أنواع الأدوية العشبية، إذ بحسب أطباء أعشاب مختلفين، فأن للكمأ فوائد طبية عديد وكثيرة، مثلاً يعالج ماء الكمأ التهابات العين واضطرابات الرؤية والماء الأبيض والحساسية وهشاشة العظام، كما يستخدم لعلاج التشققات الجلدية أيضاً، عبر غليه وخلطه أو تجفيفه وسحقه مع موادّ عشبية طبّية أخرى.