صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

البقاء.. المتعة، والانتقام: ما الذي يدفع الكُتّاب إلى الكتابة

الواجب الثوري للكاتب هو أن يكتب بشكل جيد. لكن هذا الواجب يجب أن ينطوي على أخلاقياته وجمالياته الأدبية. كما أنه ليس عمل الأفراد المتميزين، على الرغم من أن حساسيتهم تكون قد ميزتهم مسبقا عن الأفراد العاديين، لأنه ليس كل الناس حساسين للغة ولا هم يحبونها بما يكفي لكي يرغبوا في الكتابة. هل يكتب المرء من أجل حب اللغة،

الواجب الثوري للكاتب هو أن يكتب بشكل جيد. لكن هذا الواجب يجب أن ينطوي على أخلاقياته وجمالياته الأدبية. كما أنه ليس عمل الأفراد المتميزين، على الرغم من أن حساسيتهم تكون قد ميزتهم مسبقا عن الأفراد العاديين، لأنه ليس كل الناس حساسين للغة ولا هم يحبونها بما يكفي لكي يرغبوا في الكتابة. هل يكتب المرء من أجل حب اللغة، كما يحب المرء امرأة أو حياة، وهل تسحر الكتابة وتحير مثل أكثر الاختراعات البشرية إثارة؟ اليوم الذي تُحيِّر فيه أي شخص قوة الكلمات هو الوقت الذي يصبح فيه شاعراً، ويشعر بهذه القوة في كل لحظة ويتعلم كيف يعيش ويعشق الحياة بشاعرية.

                                                   * * *

بوغوتا – قال الشاعر الأميركي ألين غينسبرغ إنه يكتب لأنه كان يحب أن يغني عندما يكون وحيداً، ولأنه لم يكن لديه أي سبب في الحقيقة، ولأن الكتابة كانت أفضل طريقة للتعبير عن أي شيء يتبادر إلى الذهن في غضون 15 دقيقة أو في حياة كاملة. وقال الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو إن أولاده كبروا ولم يعد لديه أحدٍ آخر ليقص عليه قصصه. وكتب الروائي الإسباني خوان مارسِه من أجل المتعة الجمالية الخالصة. وكانت الكتابة بالنسبة له وسيلة ليشعر بأنه على قيد الحياة، ولخلق كائنات متخيَّلة، وعيش حياة لا يستطيع إن يعيشها حقاً، أو التغلب على -إن لم يكن محو- طفولة غير سعيدة. ومن خلال الكتابة يستطيع أن يجد النسيان، أو أن يستعيد بعض الصور أو المشاعر من طفولته. ويقول ميغيل أوتيرو سيلفا من فنزويلا إنه أصبح كاتباً لأنه لم يستطع أن يكون موسيقياً، ولا رساماً أو محامياً أو مهندساً أو رياضياً أو مقاتل حرب عصابات، ولا في الحقيقة عضواً في الحزب الشيوعي الفنزويلي أو خطيباً برلمانياً أو سيناتوراً. وقال إن الطبيعة لم تهبه القدرات اللازمة لاتخاذ تلك المهن، وأنه سيفكر–كسياسي- فقط في الخطب الرائعة بمجرد انفضاض جلسات البرلمان.

يقول الروائي البرازيلي روبم فونسيكا إنه كان حباً للخيال (للحلم، وابتكار الأفكار، ورواية القصص) هو الذي حرَّض فيه بدايةً حب القراءة، الذي أثار بدوره حب الكتابة والرغبة في خلق كل تلك الأشياء التي أعجب بها. وسرعان ما اكتشف أن الكتابة يمكن أن تكون مملة أو محبطة في بعض الأحيان، ومتعبة على الدوام. لكنه ثابر عليها، لأنه كان من الصعب التخلي عن مهنة تطلب تعلُّمها الكثير من الوقت والجهد. وكانت الكتابة بالنسبة لغراهام غرين حاجة، في حين يعتبرها الروائي النيجيري وول سوينكا شكلاً من أشكال الماسوشية.

يقول الشاعر الأسباني رافائيل ألبيرتي إنه يكتب ليتواصل بأكبر قدر ممكن من الوضوح مع قرائه أو مستمعيه، في حين أدلى الشاعر المكسيكي الراحل سلفادور إليزوندو بهذه الملاحظة الملتوية: “أتذكر أنني كنتُ أكتب وأرى نفسي أيضاً وأنا أكتب. وأرى نفسي أتذكر رؤية نفسي أكتب وأتذكر رؤية نفسي أتذكر أنني كنت أكتب. وأنا أكتب لأنني أرى نفسي أكتب وأنني تذكرت أنني رأيت نفسي أكتب أنني استطعت أن أرى نفسي أكتب أنني كنت أكتب، وأنني كنت أكتب أنني أكتب أنني كنت أكتب. وأستطيع أيضاً أن أتخيل نفسي أكتب أنني كتبت مسبقاً أنني سأتخيل نفسي وأنا أكتب أنني كتبت عن تخيلي نفسي أكتب أنني أستطيع أن أرى نفسي أكتب أنني أكتب”.

وكتب الفيلسوف إميل سيوران: “بالنسبة لي، الكتابة هي فعل انتقام. انتقام من العالم، ومن نفسي. كل ما كتبته تقريباً كان نتاجاً لرغبة في انتقام ما”. وأوضح الإيطالي جيسوالدو بوفالينو أن المرء يكتب حتى يتغلب على فقدان الذاكرة. لكنه يتساءل: “ألا يكتب المرء أيضاً حتى يكون سعيداً”؟ يمكنك ممارسة الكتابة كلعبة، ولِمَ لا؟ الكلمة هي دمية -الأكثر جدّية والأكثر سُخفاً، والأكثر خيرية من بين جميع دُمى الكبار. وقال جورج لويس بورخيس: “إنني أكتب لأني أشعر بأنني أؤدي وظيفة أراها ضرورية بالنسبة لي. إذا لم أكتب، أشعر بخيبة الأمل والندم”.

وصف الكاتب النيكاراغوي توماس بورغي الكتابة بأنها أقرب إلى ممارسة الحب، وكتابة أول كتاب هي مثل ممارسة الحب لأول مرة. وقال إن أحداً لا يستطيع مقاومة إغراء الاستمرار في القيام بذلك حتى نهاية الزمن. واختار الكولومبي جيرمان إسبينوزا أن يقول إنه يكتب لتبرير نفسه، أو أنه إذا اكتشف لماذا يكتب، فإنه يمكن أن يتوقف عن الكتابة. لكنه يكتب في الحقيقة، كما يقول، لأن الخيال في داخله يتفوق على العقل. وقال غابرييل غارسيا ماركيز إنه يكتب حتى يحبه أصدقاؤه أكثر. ووجد الشاعر الروسي ألكسندر كوشنر المتعة والسعادة في الكتابة، وهو يعتقد أن الموهبة الشعرية بيولوجية وغريزية في الشاعر كما هو التلقيح بالنسبة للنحل.

لا يعرف الأرجنتيني أوسفالدو سوريانو بالضبط السبب في أنه يكتب. ومع ذلك، قال، مُخاطِراً، أنه ما يأتي أولاً وقبل كل شيء هو متعة وحسيّة الكلمات التي يختارها لفتح مساحة من الحرية في الكون الذي يبنيه نصُّه. وهذا يعني الكتابة من أجل متعة الكتابة، من دون نسيان أنها فعل يظل مثيراً للقلق. وهو يعرف الثمن الذي يجب أن يدفعه، ولذلك، فإنه يكتب أيضاً لكي يُشاركَ عزلتَه. وقارن هنري ميلر بين الكتابة والحياة نفسها؛ رحلةَ اكتشاف حيث يتم فعل كل شيء من أجل المتعة في فعلِه. ولم يكن مبالياً بكل من القارئ العادي والنقاد، وكان مسروراً بمجرد اكتشافه صوته الخاص. ذلك الصوت المختلف والمتميز والفريد الذي يجعله يستمر في المضي قدُماً.

وقال الإسباني خوسيه أغستين غويتيسولو إن الكتابة ساعدته على العيش والبقاء مبتهجاً وسط الكثير من الكوارث والكثير من الشذوذ الأخلاقي والوضاعة والجبن. وقال إن الكتابة ترجع حتماً إلى احتياجات عميقة، إلى اختلال في التوازن. وقال مانويل فاسكيز مونتالبان: “بدأت الكتابة لأنني أردت أن أكون عظيماً وغنياً وجميلاً.” وقال ليوناردو سكاسكيا إنه كتب “لأنني أحب الكتابة، لأنه في الكتابة يرى الشخص نفسه كتابة، ويشعر بأنه يعيش حياة خارجة عن الوجود”.

وقالت مارغريت دوراس، بسخرية، إنه ليس لديها ما تقوله للإجابة عن هذا السؤال المزعج ولم تفكر أبداً في كُنه هذا النشاط الغريب. وقال ياروسلاف سيفرت إن المرء يكتب ربما لأن كل كائن يرغب في ترك بصمة. ولاحظ بيتر شنايدر بحذر شديد أنه لم يكتب بعد بما يكفي للتفكير في هذه المسألة. وأود أنا أيضاً أن أقول لماذا أكتب، وأن أنهي هذه المطاردة للاقتباسات بقصيدة بعنوان: “قصيدة”.

أحبُّ الكلمات

التي أحبك بها،

وأكتب لأنني

مُغرمٌ بالمطر،

برياح المساء،

بقبلات اليد

وبمداعباتِ عينيك

بحلمي بلياليك

بجواري، بصوتك حين يهمس،

بصمتك عندما لا تقولين شيئاً،

بحضورك عندما

تكونين لي، بخُطاكِ

عندما نسير،

بشعرك،

وقد بعثرته الريح، بكلماتِك

مثل الجمر المتقد

أكتب لأرجوك أن لا تموتي

أن لا تكفي عن الوجود، وتبقَي

للأبد في هذه القصيدة

في هذا القلب.

وفي هذه اليَد،

التي تكتُبُكِ إلى الأبد.

                                                 * * *

محرجون أو غير ذلك، يكتب الكُتّاب والشعراء لأن هذه هي مهنتهم الأكثر نقاءً، ويجدون من خلال اللغة طريقة لتزيين العالم المنكوب الذي نعيش فيه. قدرهم هو الكتابة –حتمياً مثل قدَر مستكشف للعوالم الجديدة في انتظار أن تُبنى هذه العوالم وتُغزى. واللغة هي القارة التي يجري اكتشافها وأكثر الأدوات روعة على الإطلاق، والتي تسمح للكُتّاب بتخيل أكثر الحكايات جمالاً وإدارة للرأس يمكن أن تستحضرها عقولهم وواقعهم وتاريخهم، والتي تتدفق عبر قلوبهم وأيديهم الكاتِبة. الكتابة هي تمرين للخيال مفرط الوجود في الطبيعة لدرجة أنه دفع ألبرت أينشتاين إلى إعلان الخيال متفوقاً على المعرفة.

ليست الكتابة حرفة قول الأشياء الجميلة، وليس الهدف منها إغواء الفتيات أو أن تكون تمريناً في الخيلاء والذي يتيح للكاتب أن يغرف المال. ولأننا نعلم مسبقاً أنه في مجتمع لا ينطوي على احترام لحالة الكاتب أو الشاعر، لا يمكن للكاتب حتى أن يأمل في الحصول على أي تعويض، في حال سعى لتحويل الكلمات إلى منتج آخر في السوق أو وسيلة للارتقاء بنفسه بتملق السلطات، أو الأكاديميات أو المؤسسة.

قال غارسيا ماركيز ذات مرة أن الواجب الثوري للكاتب هو أن يكتب بشكل جيد. لكن هذا الواجب يجب أن ينطوي على أخلاقياته وجمالياته الأدبية. كما أنه ليس عمل الأفراد المتميزين، على الرغم من أن حساسيتهم تكون قد ميزتهم مسبقاً عن الأفراد العاديين، لأنه ليس كل الناس حساسين للغة ولا هم يحبونها بما يكفي لكي يرغبوا في الكتابة. هل يكتب المرء من أجل حب اللغة، كما يحب المرء امرأة أو حياة، وهل تسحر الكتابة وتحير مثل أكثر الاختراعات البشرية إثارة؟ اليوم الذي تُحيِّر فيه أي شخص قوة الكلمات هو الوقت الذي يصبح فيه شاعراً، ويشعر بهذه القوة في كل لحظة ويتعلم كيف يعيش ويعشق الحياة بشاعرية.

*شاعر وكاتب وعالم اجتماع كولومبي. ولد في بارانكابرميخا في العام 1957. متخصص في فلسفة أميركا اللاتينية وفي الفلسفة الكولومبية من جامعة سانتو توماس، وفي الفلسفة السياسية المعاصرة من معهد الفلسفة في جامعة أنتيوكيا. كان أستاذاً في جامعات مختلفة في بوكارامانغا، كولومبيا.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Posterity, Pleasure, Revenge: What Drives Writers To Write وترجمته صحيفة الغد الأردنية

إقرأ أيضا