صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الجولة بـ25 ألف دينار

«التاكسي النهري» يغير وجهته.. مشروع للنقل العام غرق بالترفيه السياحي والنفع الخاص

تحوّل مشروع التاكسي النهري من مبادرة حكومية لحل أزمة النقل في بغداد، إلى نشاط ترفيهي ذي أهداف ربحية استثمارية بحتة، فعلى ضفاف كورنيش الكاظمية، يجذب الأنظار مطعم كبير بحدائق واسعة، مدخله مزين بيافطة كبيرة مضاءة، وسلالم طويلة تهبط بك إلى جرف النهر، وبدلا من أن تأخذك إلى مرسى الزوارق المخصصة للنقل العام، تجد نفسك داخل قاعات مسقفة ومفتوحة، ومحاطا بفتيات وشباب يرتدون زيا موحدا لهدايتك إلى مقعد مناسب داخل المطعم، في استحواذ صريح وعلني على المدخل المفترض لـ”التاكسي النهري” الذي بشرت به وزارة النقل قبل شهور.

وللتأكد من تلك القصة، وصلت “العالم الجديد” إلى مرسى الزوارق المخصص للنقل النهري العام، فلاحظت أن يافطته ما تزال موجودة، إلا أنه وبكل موجوداته من زوارق ومرسى ومحطة حجز التذاكر، بات جزءا لا يتجزأ من المطعم، دون تفسير قانوني لهذا الاستحواذ.

حاولنا الاستفهام من القائمين على المرسى، فوجدنا محطة حجز التذاكر خالية من الموظف المخصص لها، ولكن سرعان ما هرع نحونا شاب عشريني، كان جالسا على المرسى المتصل بالمطعم مع ثلاثة رجال أكبر منه سنا، وتساءل عن طلبنا، فأخبرناه بأننا نود ابتياع تذاكر لعبور النهر نحو محطة المتنبي، وهي المحطة المخصصة لهذا الخط النهري من جهة شارع الرشيد، غير أنه استغرب طلبنا وأجابنا بأن الزوارق مخصصة للرحلات والجولات السياحية العائلية وسط النهر ولمسافة محددة مقابل 25 ألف دينار (نحو 17 دولارا)، نافيا أي “تنقل للضفة الأخرى، أو وجود تسعيرة للشخص الواحد”. 

اللافت في القصة، هو التزامن الغريب بين افتتاح مشروع التاكسي النهري، وافتتاح المطعم المذكور، الأمر الذي ترك العديد من علامات الاستفهام، إذ افتتحت وزارة النقل، مشروعها للنقل النهري في كورنيش الكاظمية خلال حزيران يونيو 2023، بحضور الوزير رزاق محيبس، استعدادا لعيد الأضحى آنذاك، في حين، تم افتتاح المطعم قبل ذلك بثلاثة أشهر، وخلال أعمال التجهيز للمحطة.

ناشطون ينتقدون

بدوره، ينتقد الناشط والصحفي علي الحبيب، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، تعثر مشروع التاكسي النهري في بغداد، الذي وصف سابقا كحل مبتكر للاختناقات المرورية، بالقول إن “المشروع كان يحمل وعودا كبيرة لتحسين النقل العام، لكنه تلاشى بسرعة من المشهد، وتوقف عند حدود التجارب المحدودة”. 

ويوضح الحبيب، أن “المشروع اصطدم بجملة من العراقيل أبرزها ضعف التنسيق بين المؤسسات الحكومية، وغياب التمويل المستقر، إضافة إلى غياب الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد”، مشيرا إلى أن “هذا النمط من إطلاق المشاريع دون متابعة يعكس مشكلة في إدارة القرار الحكومي”. 

ويشير إلى أن “أحد المبررات التي طرحت لتوقف المشروع كان عدم التناسب مع طراز المدينة، وهو تبرير غير واقعي، خاصة في ظل الحاجة الماسة لوسائل نقل بديلة واقتصادية”. 

ويرى الحبيب، أن “فشل المشروع يعكس أزمة أعمق تتعلق بغياب المساءلة، حيث تطلق كثير من المشاريع لأغراض إعلامية وشعبوية دون تخصيص موازنات كافية أو اعتماد خطط تنفيذية واضحة، ما يؤدي إلى إجهاضها قبل أن ترى النور”.ولم يكن النقل النهري فكرة دخيلة على بغداد، بل شكل لعقود وسيلة رئيسية للتنقل اليومي بين ضفتي الكرخ والرصافة، عبر الزوارق الصغيرة المعروفة بـ”البَلَم”، قبل أن تتوسع العاصمة وتشيد الجسور الحديثة بدءا من منتصف القرن الماضي.

تفسير نيابي لأسباب الفشل

من جانبها، أكدت عضو لجنة الخدمات النيابية، مهدية اللامي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أنه “ينبغي إرسال جميع المشاريع التي تسعى الحكومة أو الحكومات المحلية إلى تنفيذها إلى وزارة التخطيط لغرض الدراسة من ناحية الجدوى الاقتصادية والتخصيص المالي”. 

وبينت اللامي، أن “الحكومات في بعض الأحيان تتخذ قرارات أو تطلق مشاريع دون استيفاء الدراسات اللازمة، وهو ما يؤدي إلى تأخر أو فشل في التنفيذ، كما حصل مع مشروع التاكسي النهري”.

وأطلقت وزارة النقل عام 2015، أولى التجارب العملية للمشروع في العاصمة بغداد، عبر عدد من الزوارق التي سارت على نهر دجلة بين محطات محددة، قبل أن يتعثر المشروع، لتعيد إحياءه في صيف 2023، ضمن حملة حكومية لتقليل الزحام وتوفير وسائل نقل بديلة. 

ووزعت وزارة النقل مراسي المشروع بين عدد من المحافظات، منها، الجادرية، والكاظمية، العطيفية، إضافة إلى مراسٍ في البصرة (العشار والقصور الرئاسية)، وبابل، والنجف. 

وفي تموز يوليو 2023، اندلع حريق في ستة زوارق تابعة للمشروع قرب مدينة الطب، ما أدى إلى إصابة خمسة موظفين، واعتبرته وزارة النقل أحد أبرز الحوادث التي عطلت استمرارية التاكسي النهري في بغداد.

وبحسب وزارة النقل، فقد خصص أكثر من 20 مليار دينار لإنشاء مرسى الجادرية وشراء 30 زورقا بكلفة قاربت 5 مليارات دينار، لكن المشروع لم يحقق المردود الاقتصادي أو الخدمي المتوقع، بسبب ما يُوصف بضعف المتابعة والتشغيل.

وزارة النقل تعلق

وحول تراجع مشروع النقل النهري، يقول المتحدث باسم وزارة النقل، ميثم الصافي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “مشروع التاكسي النهري تم تدشينه في العاصمة بغداد عام 2023، ولاقي حينها ترحيبا واسعا من المواطنين، لكنه واجه عدة تحديات ميدانية أبرزها، احتراق عدد من الزوارق، وانخفاض مناسيب نهر دجلة، ما دفع الوزارة إلى تشغيله بمقاطع محدودة فقط”.

ويوضح الصافي، أن “الوزارة شكلت لجنة متخصصة بالتعاون مع وزارة الموارد المائية لدراسة التحديات الفنية، وتم الاتفاق على إنشاء 22 محطة جديدة ضمن خطة لإعادة إحياء المشروع في بغداد”.

وبشأن محطة الكاظمية، وتحول المشروع إلى ترفيهي، يكتفي الصافي، بالقول إن “وزارة النقل تتابع سير العمل فيها عبر لجان فنية مختصة، وهي المعنية بإصدار التوصيات بشأن استمرار الخدمة أو تعديل مساراتها، وفقا لمعايير السلامة وما يحقق الهدف من المشروع”، لافتا إلى أن “المشكلات التي تواجه المشروع ليست حقيقية بقدر ما هي تحديات طبيعية فرضها واقع المدينة”.

إقرأ أيضا