أثارت توقعات البنك الدولي بارتفاع التضخم عالميا في المستقبل القريب مخاوف بين الأوساط الاقتصادية في العراق، إذ حدد خبراء بالاقتصاد مسارات الأزمة التي يعاني منها البلد، وأبرزها عدم امتلاكه خططا اقتصادية، وتأكيدهم على سلبية رفع الرواتب باعتباره سيخلق تضخما داخليا يضاف للدولي، فيما رهن مستشار حكومي الأمر بمعادلة من طرفين، الموجب فيها إيرادات النفط والسالب غياب الزراعة، الذي يدفع إلى الاستيراد وبالتالي استهلاك عائدات النفط.
ويقول الخبير في الشأن الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “العالم مقبل بشكل حقيقي على ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية، خصوصا المتعلقة بالوقود والطاقة، وهذا ما سيؤدي إلى ارتفاع المواد الأساسية بكافة أنواعها، خصوصا أن كافة المصانع سوف ترفع من أسعار المواد على مختلف أشكالها، وهذا الأمر سوف يتطلب زيادة الإيرادات”.
ويبين حنتوش أن “دول العالم المتقدمة قد ترفع الإيرادات ورواتب الموظفين في شبه معالجة للأزمة، لكن هذه المعالجة سوف تؤدي إلى ضخ كميات أكبر من الأموال، وهذا ما سيؤدي إلى التضخم وهذا أمر متوقع بصراحة خلال الفترة المقبلة”.
ويشير حنتوش إلى أن “العراق يعيش حاليا حالة انتعاش مالي مع وجود خزين للدولة بأكبر من 32 مليار دولار فائض عن الحاجة، ومع وجود 85 مليار دولار كرصيد للبنك المركزي العراقي، في ظل التوقع باستمرار ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة المقبلة، وهذا ما يعزز وضع العراقي المالي والاقتصادي خلال المدى القريب”.
ويواصل حنتوش أن “العراق لديه حالتين سلبيتين، الأولى عدم وجود حكومة تمتلك خططا اقتصادية حقيقية وتعرف جيدا كيف تستغل الأموال، والثانية تتمثل بمشكلة التضخم الكبير في سوق العقارات، فهذا التضخم وصل لنسبة 80 بالمئة، واستمراره سوف ينعكس على باقي المواد الأساسية وغير الأساسية، وهذا سوف يؤدي إلى ارتفاع مخيف ولا توجد معالجة لهذا الأمر من قبل الجهات ذات العلاقة”.
ويحذر حنتوش من أن “بقاء الحكومة بلا خطط اقتصادية حقيقية سيجعل العراق متضررا من الارتفاع الكبير في التضخم بالعالم وانخفاض معدل النمو الاقتصادي، حتى لو بقي النفط مرتفعا”.
وكان رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس حذر يوم أمس الأول، من أخطار التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي وانخفاض الإنتاجية واستنزاف إمدادات الطاقة العالمية وارتفاع أسعار الفائدة على البلدان النامية، متوقعا أن تستمر تلك الأخطار إلى ما بعد عام 2023. ورجح أن تسير الأمور في البلدان النامية من سيء إلى أسوأ حتى لو استقرت أوضاع الاقتصادات المتقدمة، وشبه أخطار العالم النامي بـ”الانتكاسة”.
وأظهرت بيانات البنك الدولي مؤشر التضخم مرتفعا جدا في العام المقبل، مقابل انخفاض مؤشر النمو الاقتصادي.
يشار إلى أن وزارة العمل أعلنت مطلع العام الحالي، عن وجود 9 ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر، وذلك بعد أن أعلنت وزارة التخطيط أن نسبة الفقر في البلاد خلال العام الماضي، بلغت 25 بالمئة من مجموع السكان، بعد أن كانت 31.7 بالمئة عام 2020، فيما سجلت محافظة المثنى أعلى نسبة فقر في العراق حيث بلغت 52 بالمئة تلتها الديوانية بمعدل 48 بالمئة وميسان 45 بالمئة، بحسب بيانات الوزارة.
وبشأن طبيعة الخطط الحكومية، يوضح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي مظهر محمد صالح، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الوضع الاقتصادي في العراق يخضع إلى معادلة من طرفين، الطرف الموجب فيها يتمثل بفوائض عوائد النفط على وفق مؤشرات سوق الطاقة في العالم وقدرات العراق التصديرية للنفط الخام، ما يجعل التدفقات المالية الداخلة للاقتصاد بمستوى يساعد على دفع معدلات النمو الاقتصادي إلى أمام، وهو ما يتطلب تزايد مستوى الإنفاق الاستثماري في المجالات الاستراتيجية المهمة ذات الصلة بالتنمية الاقتصادية”.
ويضيف صالح “أما الطرف السالب في المعادلة، فهي مشكلات المياه والتصحر التي ما زالت تخضع لدورة الجفاف العالمية للسنة الرابعة على التوالي في حين تمارس دول الجوار سياسات مالية لا تعير أي اهتمام يذكر لاحتياجات البلاد من مياه السقي، فالخطط الزراعية قد تقلصت إلى النصف والخشية أن تتقلص إلى النصف من بقايا النصف الأول، وهذا ما يتطلب استعدادات مهمة في مجريات الأمن الغذائي للعراق في بلاد ما زالت تستورد 80 بالمئة من احتياجات الغذاء من الخارج حتى الآن”.
ويؤكد صالح أن “القطاع الزراعي بحاجة إلى أولوية للنهضة به، ولاسيما مشاريع السيادة الزراعية وإعلان جولات تراخيص زراعية لاستزراع على الأقل 10 بالمئة من أصل المساحات المتاحة غير المزروعة لتصب في تقوية أمن الغذاء واستخدام وسائل تقنيات الإرواء الحديثة المقتصدة للمياه أو زراعة المحاصيل بالمياه المالحة ضمن حملة استزراع وطنية وبخطط قصيرة ومتوسطة المدى”.
ويلفت صالح إلى أنه “بخلاف ذلك فإن إهمال قطاعي إدارة المياه والزراعة سيتطلب تأمين الغذاء عن طريق فاتورة باهظة هي استيراد الغذاء من الجوار وغيره، وهذه الفاتورة تستهلك فائضات عوائد النفط بدلا من توظيفها في التنمية الاقتصادية، ولا ننسى أن البلاد قد استوردت مياها عذبة معبأة للشرب من بلدان الجوار بمبلغ يقال أنه بلغ 25 مليار دولار خلال العقدين الماضيين”.
ويتابع صالح أن “هذا ما يتطلب توافر سياسات مياه واستزراع وسياسات استثمار لها الأولوية في التنمية الاقتصادية في السنوات القليلة المقبلة، ولاسيما حصاد المياه وتوخي الحذر من هدر أي قطرة ماء مستقبلا”.
وعانى العراق منذ تسعينيات القرن الماضي، وخلال فرض الحصار الاقتصادي عليه، من تضخم كبير في العملة، ما دفع النظام السابق إلى التوجه لطبع العملة محليا، وبعد العام 2003، تم إتلاف العملة السابقة وإصدار فئات بطبعات جديدة، وتم تثبيت سعر صرفها أمام الدولار، بأمر من الحاكم المدني للعراق في حينها بول بريمر، الذي كشف عن شكل العملة الجديدة وسعر صرفها.
ومنذ أشهر عدة، برزت أزمة الجفاف بشكل جلي في العراق، فبعد أن تم تقليص المساحات الزراعية إلى 50 بالمئة في العام الماضي، تفاقمت الأزمة مؤخرا عبر فقدان أغلب المحافظات مساحاتها الزراعية، وأبرزها ديالى وبابل، حيث أعلن مسؤولون فيها عن انعدام الأراضي الزراعية بشكل شبه كامل، بسبب شح المياه.
إلى ذلك، يفيد الخبير المالي ناصر الكناني، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “العراق ليس لديه أي خطط لمواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعصف بالعالم، ولهذا هو بكل تأكيد سوف يكون متضررا بشكل كبير من الارتفاع الكبير في التضخم في العالم وانخفاض معدل النمو الاقتصادي، وفق تحذيرات البنك الدولي”.
ويضيف الكناني أن “معالجة هذه الأزمة لا يمكن أن تكون من خلال زيادة رواتب الموظفين، فهذا الأمر سوف يدفع إلى تضخم كبير في السوق المحلية ويفاقم المشكلة ولا يحلها، ولهذا على الجهات الحكومية المتخصصة العمل من هذه اللحظة على إعداد خطط اقتصادية مستقبلية”.
ويتابع الكناني أن “العراق دائما يجد حلولا ترقيعية مع وقوع الأزمة وليس قبلها، ولهذا دائما نجد العراق يتأثر بكل أزمة مالية واقتصادية تضرب العالم بشكل كبير كونه بلا تخطيط مسبق عكس باقي دول العالم، التي تضع خططا اقتصادية لمواجهة أي أزمة في المستقبل القريب أو البعيد”.
وشهدت السوق العراقية ارتفاعا كبيرا بأسعار المواد الغذائية منذ عامين، المرة الأولى بعد تغيير سعر صرف الدينار أمام الدولار، وهو ما تسبب برفع الأسعار نظرا لأنها جميعها مستوردة، وحتى المحلية منها فإن موادها الأولية مستوردة، والموجة الثانية للارتفاع جرت بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، التي تسببت برفع الأسعار بشكل عالمي، خاصة بعد توجه العديد من الدول لمنع تصدير المواد الغذائية.