في محاولة جادة منا سنحاول في هذا المقال الوقوف على مبررات ما تشهده مصر من عنف وإرهاب على الأصعدة كافة، وكيف نحد من هذه الظاهرة، التي تهدد الأمن القومي للبلاد، ونقضي عليها، ودور التربية والتعليم في وجودها أو القضاء عليها.
لعل مرد العنف في المقام الأول ـ كما يشير المختصون ـ إلى غياب الوعي، وسيطرة الجهل والإيمان بالخرافات والسحر والشعوذة، والانطلاق وراء كل ناعق دون تفكير، وكثرة المشكلات التي يعاني منها الكثيرون من أبناء هذا الشعب الصبور، كالفقر والمرض والبطالة والتحيز الذكوري وإهمال المرأة.. وكل ذلك بسبب رغبة الأنظمة السابقة في تغييب الشعب بإفقاره وتجهيله، وقد نجحت هذه الأنظمة لحد بعيد في وأد أحلام الشعب بحياة كريمة.
وهذه هي البيئة التي يترعرع فيها الترويج للعنف والإرهاب. وتبدأ قصة الإرهاب والعنف بالبحث عن لقمة العيش وتتطور لتصير مهنة وحرفة. ويساعد تغييب العقول وإشباع البطون على غرس كل الأفكار الهدامة التي يبغي أصحابها هدم الحضارة التي أخذت من عمر الإنسانية الكثير.
وسنكون مخطئين إن حملنا التعليم وحده المسؤولية في شيوع العنف والإرهاب في المجتمع، ولكن الأسرة والشارع والبيئة الاجتماعية ووسائل الإعلام, والفضاء التكنولوجي المفتوح, والأصدقاء..الخ كلهم مسؤولون.
وحتى لا نخرج بعيدا عن الموضوع سوف نركز في التعليم. ولعل المناهج هي المحطة التي يجب الوقوف عندها طويلا، فعلى أساسها تكون نواتج التعلم. فقد تسرب المناهج بعض القيم غير المرغوب فيها والتي تخدم طائفة معينة أو مجموعة معينة.. وهنا تكمن الخطورة. لذا يجب أن تكون الجهة المختصة بوضع المناهج جهة لا تنتمي لأي فصيل، وألا يكون أعضاؤها منتدبين، فلا يعقل أن يقوم بهذه المهمة الخطيرة منتدبون. فمع عدم الاستقرار الوظيفي لا نحصل على النتائج المبتغاة بنسبة 100 %، وأن يتم اختيار القائمين على أمر المناهج بكل عناية، وأن تعمل هذه المناهج على تنمية مهارات التفكير، وبخاصة الناقد، ليتمكن المتعلم من عرض كل ما يصل إليه عقله، فلا يقع في أسر الأفكار المغلوطة أو الخرافية أو غير المنطقية، بل يناقش ويحاجج على أساس من الفهم، وأن تنمى لدى المتعلمين القيم الأصيلة التي يرضى عنها المجتمع، وبخاصة تلك القيم التي تعلي من الحوار وقبول الآخر وحب الوطن.. وأن الحياة تسع الجميع، وأن تزود هذه المناهج بالمعارف الضرورية دون التركيز في الحفظ والاستظهار. وأن يتوقف دورها على تمكين المتعلمين من مفاتيح المعرفة لينطلقوا إلى آفاق أكثر رحابة وغنى.
وقد تكون المناهج مصاغة باحتراف تراعي فيه القيم والمهارات والمعارف التي تتطلبها المرحلة، ولكنها تصل إلى المتعلم مبتورة مشوهة، والسبب أنها تصل عبر وسيط هو المعلم.. وعلى المعلم يقع العبء الأكبر في تحقيق أهداف المنهج.
لذا لابد من التدقيق في اختيار القائمين على تعليم الطلاب، فهناك ما يسمى بالمنهج الخفي، ولا يمكن التحكم فيه أو توجيهه، فهو خاضع لشخصية المعلم وسلوكه وتوجهاته الفكرية والعقائدية. وتأثير المنهج الخفي في الطلاب ربما يفوق المنهج الرسمي. وأؤكد على وجوب إعادة النظر في كليات التربية والمتقدمين إليها وأهمية وضع معايير للقبول كتلك التي توضع للكليات الحربية، فحماية العقول أهم من حماية الحدود. وألا يلتحق بهذه المهنة النبيلة إلا من تتحقق فيه معايير أهمها الاتزان الفكري والنفسي، فكيف يُعين معلم يعاني من اضطرابات نفسية.. ونتوقع طالبا متزنا؟ الطالب يقلد معلمه وهنا تكمن الخطورة.
ونأتي للطرف الثالث بعد المنهج والمعلم في العملية التعليمية؛ وهو المتعلم. وهذا المتعلم لابد من تهيئته لعملية التعلم. فكيف يتعلم مَن يعاني من الأمراض كالأنيميا التي تنتشر بدرجة كبيرة في المجتمعات الفقيرة؟ وهنا يجب التركيز في الوجبات المدرسية. ويحضرني هنا ما شاهدته في كوبا عندما زرتها لتقييم تجربتها في محو الأمية في 2010. فقد كانت الدولة توفر للطلاب وجبتين للإفطار والغداء، ولا بد من توفر اللبن والجبن والبيض في وجبة الفطور، واللحوم أو الأسماك في وجبة الغداء. ولذا لم نجد حالة تسرب واحدة لديهم، وهي البلد التي لا يوجد فيها أمي واحد بعد حملة كاسترو للقضاء على الأمية. مع العلم أن كوبا من الدول الفقيرة، ورغم ذلك لا تبخل على الطلاب بما يمكنهم من التعلم وما يجعلهم مفيدين لأنفسهم ووطنهم.
ولن نتحدث كثيرا عن الرعاية الصحية والاجتماعية والنفسية، فهذه كلها تحتاج لتضافر الجهود بين جميع مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، وذلك لتوفير البيئة الملائمة للتعلم وممارسة الأنشطة. إن مواجهة العنف والإرهاب ليست مستحيلة، ولكنها تحتاج في البدء إلى خطة محكمة تحدد الأهداف بدقة والوسائل والأساليب المستخدمة وآليات التنفيذ وأدوار كل المؤسسات بدقة وأوقات التنفيذ وأساليب تقويم الأداء في كل مرحلة من مراحل الخطة، ثم التقويم النهائي لهذه الخطة، وأن تقوم كل وزارة بوضع خطتها للقضاء على العنف والإرهاب، وأن يقوم على وضع الخطة العامة ومتابعة تنفيذها من طرف هيئة تابعة لرئاسة الوزراء.
إن الإرهاب لا يمكن القضاء عليه بالحملات الأمنية فقط، بل بالتعليم الذي يعلي من قيم التفكير وحب الأوطان.. حفظ الله مصر وأهلها من كل سوء.
* خبير مناهج مصري