\”وجهك في المرآة وجهان فلا تكذب فأن الله يراك في المرآة\”
عبد الوهاب البياتي
الكذب على مستوى الأخلاق يعادل العفن على مستوى الجسد، حين تكذب يتعفن الجسد وحين لا يستقيم الثقافي يتعفن المادي . الكذب الثقافي يجري مع الهواء.
ليس للثقافة الكاذبة مدلول يحيل على الضمير، ليس لها قانون محدد.
انطلاقاً من هذا التصوّر الذي أطرحه حول الثقافة الكاذبة والذي سأحاول في إطاره أن أُظهر، بصورة مبتسرة، أن بنية الكذب ليست بنية شكلية بل هي بنية دلالية محكومة بموقع وظيفي سلطوي أو عقائدي.
يبدو أن الثقافة الكاذبة تعاني مأزق التعامل النقدي مع واقع لا أخلاقي منسوب إلى سلطة عقائدية أو مؤسسة ثقافية رسمية صارمة، لذا تحاول حلاً بإيجاد بدائل أخلاقية مصطنعة تطبعها أحياناً بطابع الالتباس فيتشكل أثراً أخلاقياً غريباً ومعبراً عن واقعه وزمنه.
كيف يمكن للثقافة الكاذبة أن تجيب عن السؤال الغائب فيها؟ السؤال الذي ينتج معرفة بالواقع الثقافي الراهن، في عمقه أي في علاقة الكذب بطبيعة الكذاب، وغياب السؤال هنا لا ينفي طرحه بل ربما كان في غيابه مدعاة لطرح سؤال آخر: لماذا يتعدّد أو يتكاثر الكذابون؟ ولئن كنت أرى أن الثقافة الكاذبة في صياغتها الأولى لا تعود إلى رؤية تبسيطية عابرة تتعامل بها مع الواقع فإني أيضاً لا أذهب مذهب القرّاء أو بعض الكّتاب الذين يعتبرون أن الثقافة الكاذبة تحاول أن تبدو، بالاتكاء على العقائدي، قريبة من موقف عقائدي مباشر أو سلطة عقائدية مغلقة .
أحياناً أُصاب بالغثيان من شدة ما أقرأ وأسمع من أكاذيب وصلت إلى حد الخرافة، ولئن آمن البعض، ومنهم أسماء كاذبة كبرى معروفة، بمثل هذه الخرافة التي تبدو لي أقرب إلى أن تكون برنامجاً استراتيجياً يخدم العقائدي أو السلطوي، على أن الإيمان بالخرافة يفترض درجة من السذاجة يستحيل أن نتصورها سائدة في عالمنا الثقافي الذي يكتظ بالوقائع الغريبة المختلفة .
كما أن هناك تشابهاً عجيباً يستحق أن يُذكر بين منظومة الثقافة الكاذبة وملحقاتها، فهي أيضاً تزعم أن العيب ليس في طابع المنظومة ومقتضيات تحكّمها بل في مقومات الثقافة النقدية التقليدية السائدة، وهكذا تصير ممارسات الكذب المنظم والمهيمن بريئة من المسؤولية الأخلاقية فيما يحدث من انحدار للثقافة وهكذا أيضاً تصبح الثقافة النقدية الرصينة الغائبة، خوفاً أو نزقاً أو ترفعاً، مذنبة مما يحدث للثقافة العراقية وهو ناتج الرؤية المؤسساتية/السلطوية التي تفرضها المنظومة الكاذبة على الثقافة . أكان هذا التشابه من باب الصدفة؟ هذا هو السؤال العقيم.
على أنني أطرح هنا أن ثمة عنصراً مشتركاً آخر وأقوى ألا وهو أن المنظومتين، العقائدية والسلطوية، تقومان على نفس مبدأ الإقصاء وإبادة النقاد الأصليين . وهذا العنصر ينطلق من وصفٍ صحيح لمقولات التيار العقائدي السلطوي في الثقافة العراقية الراهنة ليستنتج استنتاجات أيدلوجية مذهبية خطيرة لا علاقة لها بالثقافة والمعرفة، استنتاجات تتلخص في جملة ما يحدث في عراق اليوم من بؤس وخراب وعدم.