الحذر الحذر.. للقمة العيش حُرمة

يُعرفون بأصحاب \”البسطات أو الجنابر\” أولئك الذين يفترشون الأرصفة منذ خيوط الفجر الأولى حتى ينتهي وقع أقدام المارة ويشعرون أن لا عيون ترقب بضاعتهم. يقتنصون حاجة السابلة بما يعرضون ليكسبوا قوتهم المغمس بحرّ الصيف اللاهب, ولسعات برد الشتاء. رأس مال أعمالهم آلاف معدودة ولا يجنون إلا ما يسد رمقهم ويحفظ كرامتهم من ذل السؤال وألم العيش من كد الآخرين. يكثر بينهم حملة الشهادات الأكاديمية: البكالوريوس والدبلوم، ممن عجزت الحكومة على استيعابهم في وظائف, أو توفير فرص عمل تجعلهم يتلذذون بقطِاف ثمار تعليمهم الأكاديمي.

يُميز هؤلاء أنهم مطاردون من السلطات بجريرة تشويه منظر المكان الذي يفترشونه، وربما يتهمون بعرقلة مسار مشروع. ولطالما وقعت أبصارنا عليهم وهم يهرعون بتكوير بضاعتهم المُسجاة على حين غرة لتفادي ملاحقة موظف بلدية أو رجل شرطة مخولين بدعس ومصادرة حاجاتهم، بل وحتى سجن أصاحبها. لا عيد لهم يقضونه بين عوائلهم، ولا عطلة يتمتعون بها، والسبب أن وقت البيع الوفير قد أزف فيهما.

منذ أيام شهدت محافظة كربلاء، وتحديدا في منطقة شارع الجمهورية من جهة باب طويريج، حملة لرفع البسطات والجنابر. وجاء هذا الإجراء بعد إنذارهم برفعها خلال 48 ساعة، بحسب كلام السيد قائم مقام مركز محافظة كربلاء، ولكن لم تجر الرياح بما يشتهيه القائمون على هذه الحملة، حيث أثارت سخط أصحاب الجنابر بعد أن رأوا أن آليات البلدية أحالت بضاعتهم إلى أكوام من الركام, ولتأتي ردة فعلهم كنوع من جلد الذات حين تعالت هتافات بعضهم بالتمجيد للطاغية المقبور, ولتصدر بحق أحد عشر منهم مذكرات إلقاء قبض، وتم اعتقال 9 منهم, والزج بالسجن لعدد من الضباط لعدم اتخاذهم الإجراء الآني ضدهم, بحسب مصادر إعلامية مطلعة.

دعونا نقف عند طريقة تعبيرهم عن سخطهم، إذ يتضح منها أمران؛ أولهما أنهم كما أسلفت مارسوا جلد الذات, وإلا كيف لهؤلاء الذين ذاقوا الويل والثبور إبان الحكم السابق أن يهتفوا له؟ وخصوصا أن بعضهم من محافظات العراق الجنوبية الساعين وراء رزقهم بعيدا عن محافظاتهم, والذين وجدوا في هذه المحافظة العاجة بالزوار مواسم دائمة للرزق اليومي, وهذا بحسب ما علمته من أحد الأقرباء الساكنين في محافظة كربلاء. والأمر الثاني قد تكون طريقة اتبعت لإثارة حفيظة القائمين على هذه الحملة, وللرد \”اللساني فقط\” على هذا الإجراء الذي أراه خلا من لمسة إنسانية تتمثل بإعطائهم إنذارا أخيرا شديد اللهجة, أو على الأقل استدعاؤهم وتوقيعهم على تعهدات بأنهم سيتحملون عواقب عدم رفع ينابيع مصدر رزقهم المؤقتة, وتطمينهم بوعود توفير مكان آخر لهم حتى لا يحسوا أن تلك الينابيع قد جُففت, أو تمديد الإنذار لمدة خمسة عشر يوما, فلا نؤاخذهم على لحظات غضب جعلت منهم كالذي يستجير من الرمضاء بالنارِ, ولا يجب أن يؤخذ بالحسبان ما بُث من هذه الهتافات الجارحة أولاً لإنسانية وعراقية من صدح بها على القنوات الفضائية وبعض المواقع الالكترونية لأنها ربما تهدف لتكريس قطيعة أبدية بين هؤلاء وبين السلطات .

عمل إحصائيات دقيقة, ووضع بيانات خاصة, من قبل الجهات المعنية بهؤلاء, كفيل بتنظيم أماكن عملهم, والحفاظ على مصدر لقم عيشهم, والبدء بتشريع آليات لتوفير ضمانات كفيلة بديمومة أقواتهم, وأقوات عوائلهم هو السبيل الأمثل لما قد يلفت انتابهم ويبدد مخاوفهم أن هناك خطر دائم محدق بمصادر دخلهم وربما يؤدي إلى أن يكونوا مدينين بأن يردوا هذا الاتهام بالحفاظ على مكان عملهم, والامتثال الفوري لأي أمر.. إخلاء للمكان لتوفر بديل آخر.

إذن هي عملية للحفاظ على موئل لقمة خبز لشريحة من الناس واحترامها وإخراجها من دائرة التعدي على القانون, ووضعها في صيغة مؤطرة بإطار قانوني كفيل بضمان الامتثال الفوري للقوانين, لأنها تحفظ حقوق الأطراف كافة, أما أن يبقوا هؤلاء عرضة للتهديد بقطع أرزاقهم ودعسها أمام أعينهم فنقول الحذر الحذر فإن للقمة العيش حُرمة.

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا