صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الحق والخير الليبراليان

تطرح الليبرالية مفاهيم خاصة وتعريفات معينة للحق والخير وهما في أسسهما صيغ فلسفية سعت الليبرالية من خلالها الى تبني منهج حياة وطريقة في العيش وانماطه تستند الى تطبيقات تلك الصيغ في حياة الفرد والدولة ثم تحولت الى صيغ جمالية استطاعت ان تخالط حياة الشعوب وتتحول الى حقيقة بفعل الرفاه المادي والتقني والتطور الدراماتيكي الذي شهده قطاع الصناعة في عالم الغرب وتصوراته حول الانسان عبر الحداثة وثقافة العلمنة، وهي غير مفاهيم الحق والخير في تراثنا وعالمنا او في ثقافتنا الاجتماعية السائدة، وهي وان عدت من مفردات ومفاهيم ثقافتنا وتراثنا الا انها لا تتطابق كليا مع الفهم الليبرالي او تجديداته المبتكرة والخاصة به.

فالحق الليبرالي هو في اغلبه حق معنوي تعبر عنه فكرة الحقوق الفردية في الحريات الليبرالية واذا كان الحق في ثقافتنا يتعدى بكلمة او حرف (على) -على الحاكم على ولي الأمر على المسؤول على المكلف- فان الحق الليبرالي يتعدى بكلمة او حرف (لـ) -للمواطن، للفرد- وخيار ممارسته منوط بالمواطن- بالفرد بذاته، له ان يمارسه وله ان يتركه ويتخلى عنه، بخلاف الحق في ثقافتنا فان كلمة او حرف (على) تشير الى وجوب او واجب بالمطلق يجعل عدم الالتزام به مناط بمسؤولية شرعية او قانونية او اخلاقية، لكن الحق الليبرالي وان كان معنيا بأنماط العيش وضمان أفضل طرائق لها إلا انه غير معني بتوفير هذا العيش، وهو مذهب الليبرالية المطلقة التي تعترض على سياسيات إعادة التوزيع التي تفرض الضرائب على الغني من اجل مساعدة الفقير وتعتبره خرقا للحق الليبرالي. ورغم أن دعاة الليبرالية المشروطة يطالبون بضمان مستوى للمعيشة لائق للفرد باعتباره حقا له من تربية وتعليم ودخل ومسكن ورعاية صحية – ساندل – إلا أن الجدل الليبرالي في الساحة السياسية الأمريكية غير محسوم باتجاه محدد، وهو يدخل في سعي المدافعين عن اقتصاد السوق في قبالة المدافعين عن فكرة دولة الرفاه العام.

أما الخير الليبرالي فانه يقوم على صلة وثيقة بفكرة العدالة، وتقوم هذه الفكرة على مبدأ المنفعة. وتنفصل فكرة الخير عن فكرة الحق في التفكير الليبرالي، بل من الخطأ الربط بينهما. والخير الليبرالي هو الذي تحدده سياقات لاحقة، وهي في جوهرها براغماتية – نفعية وليست مبادئ أولية سابقة.

وهناك من الليبراليين من يؤمن بان تحديدات الحق والعدالة يجب ان ترجع الى تصورات سابقة في الخير، قد نجد التعبير عنها في ثقافات وتقاليد متعددة كل منها يستنبطن تصورا خاصا عن الخير. من هنا كان النظام السياسي الليبرالي محايدا في تصورات الخير المتنافسة ويعمد أن (لا تكون مبادئ العدالة وأشكال الحقوق منصرفة أو مشتقة باتجاه تصور محدد ومعين للخير او الحياة الخيرة).

إن تصورات الخير المتنافسة، وهي تكشف عن نسبية مفهوم الخير وسلخه عن المعنى المطلق الذي كان سائدا في تصورات الحضارات التقليدية، كان يمهد من وجهة نظر ليبرالية إلى زحزحة السلم والأمن عندما أحالت الليبرالية امكانية التنافس والصراع الى مفهوم الخير ذاته، لكنه المفهوم الديني للخير وفق تصورها. وقد جادلت الحداثة في مفهوم الخير هذا باعتباره نسبيا حين ينتمي الى الحقل الديني، وهو ما يمهد إلى الاختلاف في مفهومه وسلوكه بين الأديان نتيجة اختلاف هذه الاديان في عقائدها وأفكارها، ومن ثم نسبية هذا الخير الذي تؤمن به. ولذلك صار مفهوم الخير جزءا من أنماط معيشية مختلفة قد يتأدى الأمر بها الى التنافس والصراع، وهو ما يجنب الدولة الحديثة عبر علمنتها تبني مفهوم خاص بالخير.

ومن ثم فان حيادية النظام السياسي الليبرالي في هذه المسألة او عدم تبنيه وجهة نظر محددة في الخير راجعة إلى تصوره بان الخير وتصورات الحياة الخيرة ترتبط بأنماط العيش عند مختلف الاتجاهات الدينية والاجتماعية والثقافية, وأنماط العيش وما تقتضيه من طرائق في التفكير اختزلها مفهوم الثقافة بفضل الانثربولوجيا وهو علم ليبرالي بدرجة حاسمة وعلى ضوئه اقترنت أنماط العيش بالهوية واقترنت الهوية بالثقافة وابتكرت الليبرالية بهذه المقارنات – المقاربات انشغالات الصراعات الضالة في عصرنا بالهويات، واستخدم هنا كلمة او فكرة الضالة في توصيف الهويات في صراعاتها، وعلى الضد من شايغان حين يعبر عنها بأوهام الهويات في الحضارات التقليدية، ذلك انه يفسر صراعاتها على ضوء تحديات الحضارة الحديثة وعدم قدرتها على مواكبة الحداثة في هذه الحضارة، فتتحلل إلى أوهام عبر يأسها من التواصل او هزيمتها في الاستمرار بالتحدي أو مواجهة التحديات المعاصرة.

من هنا فانه يفسر الصراع أساسا عبر توكيده صراعا حديثا بين نمطين معيشيين.. إنه تحديات هويات أسست له وهيمنت عليه تلك التصورات الليبرالية حول الخير ونمط الثقافة او العيش المرتبطين به.

إن صراع الهويات هو صراع ثقافات من وجهة نظر ليبرالية خالصة وعامة، وهو صراع حول مفهوم الخير الذي تتبناه تلك الثقافات. واستنتاجا عن تلك الرؤية يقول مايكل ساندل الليبرالي (ان اختلافاتنا الأخلاقية والدينية انعكاس لتعدد صور الخير البشري في نهاية الأمر) وحين يستشعر خطورة هذه الخلافات على منحى الخير البشري العام فانه يقترح (تقدير صور الخير المتخيلة في اختلاف حيواتنا) وهو تعبير عن امكانية فهم خير مطلق او دعنا نقول خير عام تخفيفا من حدة المطلق الميتافيزيقي، لكن ساندل لا يخرج في مفهومه عن تقدير صور الخير المتعدد – النسبي عن فكرة او مفهوم المجتمع التعددي الذي يعبر عن فكرة التعددية الثقافية المقترنة بالفهم الليبرالي للهويات، وهي الفكرة ذات الجذور الامبريالية الأمريكية. وبذلك فهي تعيش هاجس صراعات الهويات وتمثلاتها السياسية الخطيرة في صدام الحضارات كرؤية ليبرالية – أمريكية. 

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا