الخدمة الجهادية

يعرف رجال القانون، أكثر مني، ان دقة الصياغة لنصوص القانون ضرورية كي لا يخرج النص عن نية المشرع او يحتمل تأويلات عديدة سوف تعد عند تطبيقه ثغرات تنفذ منها ريح التلاعب والتحايل واستنباط ما يقع خارج ما قصده المشرع.

من هذا المنطلق افترض ان مشرع قانون التقاعد الذي استخدم مصطلح (الخدمة الجهادية)، بطابعه الديني الواضح، كان يهدف بالضبط الى ان يشمل بأحكامه شريحة معينة بالذات. ولو لم يكن الأمر كذلك لاستخدم مصطلح (الخدمة الوطنية). هذا لا يعني الدعوة الى استخدامه بديلا عن المصطلح الاول، لأن كليهما سيكون بابا مشرعا للفساد والمحسوبية ليضاف الى مئات الابواب الاخرى التي تركت مشرعة كي ينفذ منها بأمان لصوص المال العام، وكله بالقانون. بل ان الاستبدال اذا ما تم سوف يفتح على ميزانية العراق باب جهنم، وسوف ترتفع الميزانية التشغيلية، المرتفعة اصلا، الى أكثر من تسعين بالمائة، وبالتالي لن تكون هناك تنمية او اعمار لعقود طويلة قادمة.

لكن دعونا الآن مع الخدمة الجهادية. واضح من المصطلح ان المقصود بهذه الحقوق التقاعدية هم اولئك الذين انتموا الى احزاب الاسلام السياسي ومريديهم واتباعهم وحواشيهم، الذين سوف يتضاعف عددهم اذا ما أقر القانون. وستكون الوسيلة الوحيدة لاثبات الاستحقاق التقاعدي هي التقدم باستشهاد من احد هذه الأحزاب يؤيد انه كان مجاهدا في صفوفها، ولا توجد جهة اخرى تعطيك صك الغفران هذا كي تنعم بالتقاعد مدى الحياة. وتعالوا نتحاسب. صحيح ان اعدادا غفيرة من العراقيين هاجرت الى المنافي هربا من بطش النظام، وكان بعضهم (مجاهدا). لكن الصحيح ايضا ان عددا كبيرا من هؤلاء انقطعت صلته بموضوعة الجهاد بعد ان استقر في بلد المنفى. هؤلاء عاشوا في دول اللجوء عقودا طويلة من السنين تمتعوا فيها بالامتيازات التي تمنحها الدول المتقدمة لمواطنيها، تعلموا وعملوا وانجبوا ابناء كبروا وهم لا يعرفون عن العراق سوى ما يحدثهم به آباؤهم.

ماذا اذن عن العراقيين، في الداخل والخارج، ممن قدموا لوطنهم خدمات جُلّى لا ينطبق عليها وصف الجهاد؟ ألم يقدم ذلك العالم الجليل، عبد الجبار عبد الله، خدمة لوطنه بعد ان اعتقل ثم شرد ليموت غريبا في المنفى؟ ماذا عن الجواهري الذي كان صوت العراق المدوي ضد الكتاتورية والقمع، وقد امضى عقودا من عمره الثمين في المنافي؟ ماذا عن جواد سليم؟ وعلي الوردي؟ وهادي العلوي؟ ماذا عن خليل شوقي ومحمد جواد اموري وجاسم المطير ويوسف العاني، الراقد مريضا في بغداد، ومئات آخرين من رموز الثقافة العراقية؟ ماذا عن الملايين من العراقيين الذين خدموا وطنهم في شتى المجالات ولم يكونوا موظفين في الدولة؟ كل هؤلاء لا تنطبق على تاريخهم المشرف مواصفات الخدمة الجهادية، وبالتالي لن تشملهم البركات السخية لقانون التقاعد.

ان مشكلة النخبة السياسية، التي تسيدت المشهد بعد 2003، انها تنظر الى الوطن من ثقب الباب لا من قلب مثقوب، كما يقول الراحل الكبير يوسف الصائغ. انهم يرون الوطن مجسدا في الدائرة الضيقة المحيطة بهم فقط، بل ان كثيرين منهم يرون فيه سبيكة من ذهب القى بها في طريقهم القدر الاميركي، وما القوانين سوى أداة تشرعن لهم قضم جزء من سبيكة الذهب تلك.

عن اية خدمة جهادية يتحدثون؟

إقرأ أيضا