الدولة تتجاهلهم وأرباب العمل يتهربون من تسجيلهم.. 95% من عمال نينوى بلا ضمان صحي واجتماعي (تحقيق)

​​​​​​​”اختل توازنه وهوى من الأعلى. حاول لحظتها بيديه ورجليه الإمساك بشيء، لكن دون جدوى”. هكذا…

“اختل توازنه وهوى من الأعلى. حاول لحظتها بيديه ورجليه الإمساك بشيء، لكن دون جدوى”. هكذا يصف عامل نصب السلالم رأفت مهنا حسام (26 سنة)، سقوط رفيق طفولته وزميله في العمل محمود حسن (25 سنة) من ارتفاع 22 متراً ليفقد حياته على الفور، حين كانا يعملان على تركيب السلالم الخارجية لتغليف المنارة الثانية للجامع الكبير في مدينة الموصل بحجر الحلان.

“كان هذا في حزيران يونيو 2021 ونحن كما غيرنا من العمال في مختلف صنوف البناء لا نستخدم أية وسائل أمان”. يقول رأفت بنبرة لوم، ثم يضيف بحزن: “كان يومها سعيداً ومرحاً وكان يمازحني بلطافة كبيرة كما تعود دائما وهو يحكي قصصا ومواقف مرت بنا”.

ويروي كيف كان بالوسع تجنب ذلك الحادث فيما لو كان هنالك سياج أمان أو حتى مجرد حبل مربوط إلى محمود “حاول أن يناول عاملاً قريباً منه أداةً عندما انزلقت رجله ففقد السيطرة وسقط”.

لم يكن محمود مسجلا بدائرة الضمان الاجتماعي أو نقابة العمال وكان موقّعا على تعهد يخلي مسؤولية الشركة التي وظفته بأجر يومي عن أية اصابة عمل يتعرض لها بحسب محمد حسن، الأخ الأكبر لمحمود، وهو ما أكده لنا رأفت، لأنه كان هو الآخر قد وقع على تعهد مماثل في 7/2/2021.

الشقيق محمد، عامل بناء بأجر يومي، ولديه أربعة أشقاء آخرين يعملون في البناء أيضاً وكلهم على شاكلته، يقول عن ذلك لـ”العالم الجديد”: “لا أحد منا لديه ضمان أو هويات نقابة، وأنا أصلاً لا أثق بوجود حق للعامل في العراق، لذلك لم أراجع الضمان الاجتماعي فضلا عن عدم امتلاكي مالاً إضافياً أدفعه مقابل اشتراكات عضوية لجهات لا تفكر بنا أبداً!”.

والضمان الاجتماعي هو برنامج حماية اجتماعية نظمت له قوانين خاصة، تتعلق بتوفير الأمن المالي للفرد في حال وصوله لسن الشيخوخة أو العجز والإعاقة فضلا عن الطرد من العمل أو تركه. وتنص بعض الدول في قوانينها وتشريعاتها إلى إجبار مواطنيها على التسجيل بشبكات الحماية الاجتماعية.

وتم إقرار هذا الحق وإدراجه ضمن الحقوق الاساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان رقم 22 إذ ينص على أن “لكل شخص حق في الضمان الاجتماعي”، ومن حقه أن يوفر له الضمان من خلال “المجهود القومي والتعاون الدولي بما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها”.

أما في الحالة العراقية فتنص القوانين على أن يحصل العامل على أجر يكفي لسد حاجته الأساسية يمكّنه من إعالة اسرته وحماية أجره على نحو يكفل عدم اقتطاع اي جزء منه كما جاء في المادة (4) من قانون العمل رقم (71) لسنة 1987.

96 % من العمال بلا ضمان

المئات من حوادث العمل تعرض لها عمال من نينوى خلال السنوات المنصرمة، فقدوا بأثرها حياتهم أو تعرضوا لإصابات بليغة، دون أن يحصلوا هم إن بقوا أحياء أو ذووهم إن توفوا على تعويضات لعدم إبرامهم عقود تنظم عملهم مع أرباب أعمالهم أفراداً أو شركات، ولا حتى أي ضمان رسمي يمنح لهم حقوقاً في حالات الموت والمرض والعجز والطرد من العمل وغيرها.

وأظهرت دراسة أعدتها دائرة التخطيط في محافظة نينوى التابعة لوزارة التخطيط سنة 2021 أن 96% من العمال في القطاع الخاص، يعملون بلا ضمان اجتماعي، لذا لن يكون لديهم استحقاق تقاعدي عند وصولهم للسن القانونية للتقاعد(60 للرجال و55 للنساء أو خدمة تصل إلى 20 سنة) كما أن 95%منهم يعملون بدون ضمان صحي.

وشملت الدراسة، الفئات العمرية بين 10-30 سنة من العاملين، على مستوى العراق، بما فيها نينوى، وتبين أن 19% منهم فقط يعملون في القطاع الحكومي و81% يعملون في القطاع الخاص.

ويشير مدير إحصاء نينوى نوفل سليمان إلى أن واقع الشباب في القطاع الخاص “لا يجري بالصورة المطلوبة إذ أن 85% منهم على الأقل لا يعملون بعقد عمل على مستوى العراق، والنسبة ترتفع في نينوى لتصل إلى 93%”.

وفي جولة لـ”العالم الجديد” داخل أسواق “الجامعة” و”النبي يونس” و”الدركزلية” و”الجزائر” و”شارع حلب” و”باب جديد” و”باب السراي” و”الدواسة” و”الفيصلية” و”المثنى والمصارف”، في كلا جانبي مدينة الموصل الأيمن والأيسر والتي تتضمن محال تجارية لبيع الملابس والمواد الغذائية والأجهزة الكهربائية والأثاث والمطاعم وحلاقين وخياطين وغيرهم. وجدنا بأن فرق التفتيش المعنية، لم تزر سوى بضعاً من هذه المناطق، وكان ذلك قبل سنتين.

هذا يعني بأن الغالبية العظمى من هذه المحال التجارية في نينوى غير مسجلة لديها، ولاسيما أن الكثير منها قد تم إنشاؤها حديثا أو أعيد افتتاحها بعد انتهاء العمليات العسكرية بين 2016-2017 والتي تسببت بدمار كبير في البنية التحتية للمدينة.

بالنتيجة فإن معظم العاملين في هذه المحال، الذين بالأصل لا تربطهم بأرباب العمل عقود تضمن لهم حقوقهم، ليسوا مسجلين في دائرة الضمان الاجتماعي. والأسباب في ذلك متعددة منها ما يتذرع بها أرباب العمل الذين يجمعون على أن العمال لا يستقرون طويلاً في العمل، وهو ما يعترض عليه المتخصصون في المجال الاقتصادي ومحامون بتأكيدهم على أن العقود يمكن إبرامهما مهما كانت مدة العمل قصيرة.

والأسباب الأخرى تتعلق بالعمال أنفسهم، إذ وجدنا من خلال حديثنا للعديد منهم أنهم يجهلون تماماً ماذا يعني الضمان الاجتماعي وماهي الجهة التي ينبغي أن يسجلوا معلوماتهم لديها، وهم غير مسجلين في نقابة العمال ولا يعرفون شيئاً عن مهامها ولا حتى موقعها والقاسم المشترك بينهم جميعاً هو عدم الثقة بوجود ضمان لحقوقهم.

لكن بالمقابل عثرنا على عدد قليل من العمال المسجلين في دائرة الضمان الاجتماعي، والشركة التي يعملون لصالحها أو رب العمل، يدفعان الرسوم السنوية المستحقة عن تسجيلهم بنحو منتظم.

حاولت “العالم الجديد”، إجراء مقابلة مع مدير دائرة عمل نينوى الاتحادي، التابعة لوزارة العمل وهي المسؤولة عن التفتيش بحسب أعضاء في نقابة العمال، لكن موظفين هناك أخبرونا بأنه في إجازة طويلة ولا يمكنهم الإدلاء بأية معلومات دون موافقة منه أو كتاب رسمي من مقر دائرتهم العام في بغداد.

إجراءات السلامة

يضطر معظم عمال البناء في نينوى وبمختلف تخصصاتهم، إلى ممارسة أعمالهم وهم على ارتفاعات، تكون عالية في بعض الأحيان، ما يعرضهم لخطر السقوط، خصوصاً وأن الغالبية الساحقة منهم لا يتخذون اجراءات للسلامة.

فليس شائعاً بينهم ارتداء خوذ أو أقنعة واقية أو أحزمة تسلق أو أحذية وثياب مخففة للصدمات، بسبب عدم توفيرها لهم من قبل أرباب العمل وعدم قدرتهم على شرائها بأنفسهم بسبب انخفاض الأجور التي يتلقونها مقابل الأعباء المالية التي تقع على عواتقهم لإعالة أنفسهم وأسرهم.

وما يثير الاستغراب، أن بعضهم ممن توفر لهم القدرة لشرائها، يرفضون استخدامها بزعم أنها ثقيلة وتعيق عملهم أو يتحججون بارتفاع درجات الحرارة خصوصاً في أشهر الصيف التي ينشط فيها البناء في العادة، لكن الحال يختلف لدى شركات البناء، فعلى قلتها، إلا أنها تلزم العامل بإجراءات السلامة خوفاً من المسؤولية التي قد تتعرض لها بسبب العقود التي تبرمها مع العمال.

في قضاء الحمدانية شرق الموصل، تعين على قاسم فارس (28 سنة) أن يلف جذعه وأطرافه بحزام برتقالي اللون مكون من ثلاثة أجزاء، مع خوذة غطت رأسه وقفازين سميكين في يديه، ليرتقي برجاً خاصا بالأنترنيت بارتفاع 26 متراً ليُركب في أعلاه كاميرا مراقبة.

يقول قاسم بأنه يطيع أوامر الشركة ويرتدي ما يضمن سلامته، يبتسم ويضيف: “سأعرض نفسي للعقوبة التي تصل إلى الطرد من العمل إذا خالفت الأوامر”.

ويرى بأن ذلك يناسبه، لأنه ليس موظفاً حكومياً (الشائع في نطاق العمال أن الموظفين الحكوميين وحدهم يمتلكون كافة الحقوق، من بينها الضمان)، ومتضمن في العقد الموقع بينه وبين الشركة لمدة سنة قابلة للتجديد، حقوقه المالية، وان الشركة تدفع الرسوم المتعلقة به لدى دائرة الضمان الاجتماعي.

يفكر قليلاً وهو يلقي نظرة إلى الأعلى حيث الكاميرا التي كان قد انتهى من تركيبها، ويقول: “عقدي لا يتطرق إلى حالة الإصابة خلال العمل، لكن لا بأس، إجراءات السلامة تحميني، وسأكون حذراً على الدوام لمنع وقوع الحوادث”.

رعد إسماعيل البدراني مدير قسم تقاعد وضمان نينوى، يؤكد على أهمية الضمان الاجتماعي لحياة الإنسان، فهو يعني وفقاً لما يذكر: “ضماناً للعائلة لأن أفرادها سيحصلون على حقوق تقاعدية في حالة وفاة رب الأسرة العامل أو تعرضه لإصابة تعيقه عن العمل، وبكل الأحوال سيكون مضموناً لدى الدولة ولا فرق بينه وبين الموظف لديها في هذه الحالة”.

وعن سبب عدم قيام فرق التفتيش بزيارة الأسواق والمناطق التجارية لتسجيل العمال فيها، يعزوه البدراني إلى “قلة أعداد الموظفين”، فبعض اللجان تتألف من موظف واحد فقط. لافتا إلى أن “موظفين جددا قد تم تعيينهم في شعبة التفتيش، لكن الظروف التي مرت بالبلاد خلال السنوات القليلة الفائتة أخرت مباشرتهم العمل”.

كما يُرجع عدم تسجيل العمال في الضمان الاجتماعي أيضا، إلى عدم تعاون أرباب العمل والعمال أنفسهم مع فرق التفتيش، ويقول إن “العامل لا يأتي إلينا، وعندما نذهب نحن إلى المشروع يكون قد هرب من المكان وكل ذلك من أجل أن لا يدفع صاحب المشروع أو الشركة الرسم المطلوب لتسجيله”.

تهرب الشركات وأرباب العمل من تسجيل العمال لديهم أمر شائع جدا، فخلال جولة صغيرة في مئات من حقول الدواجن والمجازر ومفاقس البيض ومعامل الأعلاف والمخازن المنتشرة في سهل نينوى شرق الموصل، يظهر وجود آلاف العمال النشطين، لكن في حال تدقيق استمارات هذه المشاريع لدى دائرة الضمان الاجتماعي، يتضح أن هنالك عاملا واحدا أو اثنين على الأكثر مسجلين في كل مشروع وتدفع عنهم الرسوم، في حين لا أثر لباقي العمال.

ويعلق المشاور القانوني المتخصص في قطاع شركات الإنتاج الحيواني توما جرجيس، قائلا إن دائرة الضمان الاجتماعي بما تضمه من موظفين وإدارة ووزارة يعلمون علم اليقين بأن كافة المشاريع لا تقدم بيانات دقيقة بشأن أعداد العمال العاملين لديها، وذلك للتهرب من تسديد ما يترتب على تسجيلهم من رسوم شهرية.

ويوضح أن “هذا الأمر يحدث منذ عقود، وبين العام 2003 و2017 لم يكن بإمكان فرق التفتيش أن تزور المشاريع بسبب الأوضاع الأمنية في حينها، والآن يتم التذرع بعدم كفاية الكوادر العامل”.

ويستدرك خلال حديثه لـ”العالم الجديد” بالقول: “حتى لو كانت هنالك فرق تفتيش نشطة، فسيتم رشوة أعضائها أو حجب العمال عن أعينهم، وهذا امر معروف في نينوى لدى الجميع”.

ويرى جرجيس أن الحل يكمن بتثقيف العمال على المطالبة بحقوقهم، وإلزام أصحاب المشاريع أفراداً وشركات بتسجيل العمال في الضمان الاجتماعي، وأن لا يترك أمر تقدير أعداد العمال على أصحاب المشاريع، فلا يعقل أن يعمل عامل واحد في معمل يتطلب عشرات من العمال، لذا ينبغي أن يحدد اعداد العمال مع تأسيس كل مشروع”.

أجور متدنية

وهنالك من يدعو إلى احتساب رسوم تسجيل العمال ضمن الرواتب أو الأجور التي يتقاضونها لكي يقوموا هم أنفسهم بتسجيل أسمائهم لدى الضمان الاجتماعي ودفع ما يترتب على ذلك من رسوم، لكن هذه الدعوة، تصطدم بتدني أجور العمال، وتفاوتها وفقاً لأمزجة أرباب العمل وقناعاتهم.

وكان مجلس الوزراء قد قدم في 28 كانون الأول ديسمبر2017 توصية إلى لجنة العمل البرلمانية لتحديد الحد الأدنى لأجر العامل بـ 350 الف دينار شهرياً حوالي (236 دولاراً) بدلاً من 250 الف دينار أي حوالي (168دولار) الذي كان قد حدد في القرار 178 لسنة 2013.

وعملياً فلا أثر واضح حتى بالنسبة للقرار الذي كان قد صدر في 2013، إذ ان معظم العمال غير المهرة، يتلقون أجوراً أقل من 250 ألف دينار شهرياً، فالأجر الذي يتلقاه العامل (غير الماهر) في اليوم الواحد يتراوح بين 7 -10 ألف دينار، حوالي 4-6 دولار، مع مراعاة أنه لا يعمل بنحو يومي أو ثابت.

وأثار إعلان وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، الإثنين الماضي، تحديد الحد الأدنى للأجور ضمن قانون الضمان الاجتماعي المزمع إقراره في البرلمان، الحديث عن حقوق العمال في العراق، حيث تناولت “العالم الجديد” في تقرير سابق، إمكانية تطبيق العدالة الاجتماعية والمساهمة برفع المستوى الاقتصادي للعمال، وآليات تطبيقه، في ظل إيضاح وزاري بأنها ستعتمد على الجولات التفتيشية للمحال والمطاعم وغيرها وتتجه للتوعية بالتسجيل من أجل ضمان حدود الأجور.

يعمل أيمن إسماعيل (22 سنة) عامل بناء بأجر يومي يتراوح بين 6-12 ألف دينار، 4-8 دولاراً منذ عام 2012، أصيب في قدمه اليمنى مرتين، الأولى كانت في سنة 2015 والأخرى سنة 2018، وفي كلٍ من هاتين المرتين، لم يحصل على إعانة صحية من أية جهة.

يقول بشيء من الحيرة: “لست منتمياً لنقابة العمال، ولا أعلم بوجود ضمان اجتماعي، ولن أضيع وقتي في الاستفسار عنه، لأنني لا أصدق أي شيء تقوله الدولة”.

وفي مقابل العمال الذين يعملون في مشاريع أو شركات أو لدى مقاولين، هنالك شريحة كبيرة منهم يعملون بنحو حر، كغير المرتبطين بمشاريع وشركات وسائقي سيارات الأجرة، فهم لا يستطيعون حتى وإن أرادوا، التسجيل لدى دائرة الضمان الاجتماعي لعدم وجود قوانين تنظم ارتباطهم.

مدير دائرة الضمان يوضح ذلك بقوله: “العامل الحر لابد له أن يقوم بالتسجيل ضمن مكاتب، وبالتعديل الجديد المقترح لمجلس النواب تناول مثل هكذا حالات بما يسمى الشمول الاختياري غير المنضبط كالمهن الحرة، إذ يستطيع أصحابها التسجيل في الضمان الاجتماعي، وكان من المفترض ان يتم قراءة القانون قراءة اخيرة لاقراره لكن ظروف البلد السياسية حالت دون ذلك” وفقا لما قاله.

ولا تملك الدائرة إحصائيات دقيقة لأعداد العمال المضمونين لديها عازية السبب إلى تعرض الدائرة إلى القصف أثناء العمليات العسكرية التي جرت في المحافظة بين 2016-2017 والتي اعادتها وفقا لما قاله إلى الصفر.

وما معروف حاليا لدى الدائرة من مشاريع عاملة في نينوى التي تعد ثاني اكبر محافظة عراقية، ينحصر في 49 مشروعاً مسجلا فقط، وهنالك 7457 من العمال الذين تدفع عنهم مستحقات أو رسوم الضمان المالية التي تبلغ 17% من الأجر، وأكثر من 2500 عامل يتسلم راتباً تقاعدياً.

وفي نقابة العمال، كانت الإجابة عن سؤالنا بشأن أعداد العمال مشابهة تقريبا، إذ فقدت النقابة بدورها سجلاتها بسبب الأحداث الأمنية وحرب تحرير نينوى من داعش، وهي الآن تعيد ترتيب أوراقها من جديد، ففي حين كان هنالك 8000 عاملاً مسجلاً لديها سنة 2014 أي قبل سيطرة داعش على نينوى، لم يعد مسجلاً لديها اليوم سوى 300 عامل فقط.

وتعزو النقابة عبر موظفيها قلة أعداد المنتمين إلى النقابة، إلى قلة وعي العمال بنشاط النقابة ودفاعها عن حقوقهم وفقا لما ذكروا. وأشاروا كذلك إلى أنهم روجوا خلال سنة2021 بأكملها 20 معاملة تقاعد لعمال منتمين لها، ولفتوا إلى أنه عدد بسيط جداً في محافظة يزيد عدد سكانها عن أربعة ملايين نسمة، وفيها عشرات الآلاف من العمال.

ماذا يعني عدم ضمان العامل؟

هنالك في نينوى كثير من أصحاب المتاجر والمشاريع، يوظفون عمالاً (غير مهرة) أي الذين لا يمتلكون مؤهلات أكاديمية أو خبرة في مهنة معينة، وتكون في العادة أجورهم متدنية، ويجهلون بغالبيتهم حقوقهم، ومنهم من لا يثق أصلا بأن هنالك جهة يمكن أن تعمل من أجلهم سواءً كانت نقابة عمال أو دائرة الضمان.

وقد يكون أرباب العمل سبباً من أسباب ترسيخ هذا الإعتقاد لدى العمال نظرا لقلة الحركة التجارية تارة والجهل بالضمان الاجتماعي تارة أخرى.

حكمت مجيد مصطفى (50 سنة) صاحب محلات للبيع بالجملة في الجانب الأيسر للموصل واحدٌ من هؤلاء، إذ لا يعتقد بأن العمال سيستعيدون الرسوم التي يدفعها عنهم للضمان الاجتماعي “لم أسجل في الضمان وبصراحة ليس لدي ثقة أن تعود للعمال النقود التي سأسددها كرسوم” هكذا يقول بإصرار.

هو مؤمن مثل كثيرين غيره، بأن أوضاع العراق متقلبة ولا يمضي عقد إلا ويحدث فيه أمر جذري يعيد كل شيء إلى نقطة البداية، ويؤكد لـ”العالم الجديد”: “لا أعرف أحدا من جيراني من أصحاب المحال سجل عمالاً في الضمان”. وقناعته هذه تعززت بسبب مضي أكثر من سنتين على إعادة افتتاح متجره دون أن يزوره أي موظف حكومي لا من الضمان ولا حتى من غيرها.

بدورها ترى علياء غازي الأطرقجي، التدريسية في كلية الحقوق بجامعة الموصل، بأن عدم وجود ضمان للعمال سيترتب عليه إشكاليات عدة، منها حرمانهم من اضافة مدة خدمتهم في القطاع الخاص عند تعيينهم في القطاع العام.

وتبين: “بحسب المادة الخامسة من قانون العمل العراقي النافذ رقم 37 لسنة 2015 تحتسب خدمة العامل المضمون خدمة فعلية لأغراض الراتب والتقاعد عند التعيين بوظيفة في دوائر الدولة والقطاع العام كما أن العامل قد يتعرض لإصابات العمل والعجز فعندما يكون مسجلا في الضمان الإجتماعي يمكن أن يحصل على مايسمى إعانات أو راتب العجز”.

الأطرقجي تؤكد على ضرورة تثقيف العامل على المطالبة بحقوقه من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وأن تتوجه الدولة لارغام القطاع الخاص كأصحاب عمل أو شركات أو مؤسسات أهلية وغيرها لتسجيل العاملين لديها، وتشديد العقوبات على المخالفين والمتحايلين على القانون بقيامهم بتسجيل عدد أقل من عدد العمال الحقيقيين لديهم”.

وتذهب في حديثها لـ”العالم الجديد”، إلى أن “المشكلة تكمن في عدم تطبيق القانون بنحو صحيح وعدم وجود عقوبات رادعة للمخالفين”. لكن هنالك من يحمل نقابة العمال مسؤولية جهل العاملين في نينوى بحقوقهم، وهو ما تنفيه النقابة التي تتهم بدورها الحكومات العراقية المتعاقبة بالإهمال واللامبالاة فيما يخص العمال.

يقول شفاء طه عزيز رئيس اتحاد نقابة العمال في محافظة نينوى ان “حقوق العمال مهضومة منذ 2003 وحتى وقتنا الحالي ونقابة العمال تدافع عن العمال المنتمين لها وغير المنتمين أيضا، لكن للاسف لايوجد ادراك لدى العامل للانتماء للنقابة”.

كما ينفي عزيز استلام نقابته أي مبلغ مالي من الحكومة، وذكر بأنها تسّير أمورها من خلال الاشتراكات التي يدفعها العمال، وأن عمالاً في محافظات عراقية أخرى، شملوا بتوزيع قطع أراض سكنية عليهم، بقرار من مجلس وزراء في وقت حرم من ذلك عمال نينوى.

وتابع يقول: “عندما فاتحنا ديوان محافظة نينوى بشأن ذلك، عقدوا الأمر علينا، في حين أن كثير من المحافظات الأخرى حققت انجازات في هذا المجال منها السماوة، الكوت، الناصرية وغالبية محافظات الجنوب عدا المحافظات الغربية كالرمادي، صلاح الدين ونينوى”، عازياً السبب إلى الإدارات التي تحكم هذه المحافظات.

ويؤكد عزيز ما توصلنا إليه من خلال تقصينا أن هنالك مشاريع تتهرب من تسجيل العمال، بقوله: “هنالك مشاريع فيها ما لا يقل عن 150 عامل، لكن صاحب المشروع يقلل من عماله للتهرب من دفع الضرائب التي تقع عليه، نحن نعلم بذلك والضمان يعلم، ولكن لا سلطة لدينا عليه؟”.

واشتكى رئيس نقابة عمال نينوى، من وجود نقابات واتحادات مفترضة تحتال على العمال وتجبي الأموال باسمهم دون أجراء أمني ضدها، وأيضاً قيام شركات بتوظيف عمال من جنسيات أجنبية بنحو مخالف للقوانين، وكل ذلك يؤثر في النهاية على العامل في نينوى ومستقبله.

مع ضياء كل فجر، يقف نشوان فاروق (34 سنة) وهو يضع أمامه مجموع من المطارق بالقرب من سوق النبي يونس في الجانب الأيسر للموصل بانتظار مستطرق يفتش عن عامل هدم او نقل. يقول وعيونه تتابع سيارة بيك آب تقترب من المكان: “رأس مالي مطارقي وذراعاي..”.

قبل أن يكمل كلامه تحرك بسرعة ناحية السيارة التي ركنت قريبا من موقعه على الرصيف، وعاد بعد حوار قصير مع سائقها، وعلامات الخيبة على وجهه، وهو يشكو من قلة فرص العمل “هذا حالنا نلاحق رزقنا بكد.. نظفر بالعمل يوماً ونفشل لأيام”.

إلى جانبه، كان يقف زميله حميد، الذي قارب الستين من عمره وقد بدت خطوط الزمن واضحة على تقاطيع وجهه البارزة بسمارها وعلى يديه الخشنتين. قال وهو يعيد ترتيب بضعة أسلاك حديدية يستخدمها لتنظيف أنابيب المجاري: “نحن منسيون، لا حقوق لنا.. ولا شيء مضمون في حياتنا، فكيف أضمن نفسي لدى دائرة الضمان؟!”.

إقرأ أيضا