الراعي والقطيع

التقيت هنا بصحفي عربي، كان ممن يصرون على التمسك بنظرتهم الى صدام حسين بوصفه فارس الأمة وبطلها، وان العراقيين قد غدروا به يوم انقلبوا عليه فجأة. قال لي بعبارات حاول ان تكون مؤدبة وغير مستفزة \”كنا نرى العراقيين على شاشات التلفزيون يخرجون بالملايين يصفقون ويهزجون للقائد وهو يلوح لهم بيده من الشرفة والصورة لا تكذب. هل كان كل هؤلاء بعثيون؟\” كان وصف المشهد من الخارج صحيحا، لكن أنى للرجل ان يقرأ ما يقف خلف ذلك المشهد الذي يمثل اللقطة الاخيرة في سيناريو طويل ومعقد؟

أعرف جيدا ان التحشيد لمثل ذاك المشهد كثيرا ما كان يتم بالاكراه، كأن يدفع بالموظفين والطلاب ورجال العشائر وغيرهم للاحتفاء بمقدم الدكتاتور، أو ان يتم عن طريق استثمار حالة الرعب والقمع السائدة فيخرج الناس من تلقاء انفسهم درءا للشبهات. لكنني اعرف ايضا ان كثيرين كان خروجهم طوعا، لأنهم كانوا قد اصبحوا جزءا من قطيع يتبع الراعي حيثما ذهب، ويطيعه كلما أشار بيده. انه قطيع زرعت فيه بذرة السمع والطاعة في زمن مبكر، لتنمو وتترعرع عندما يظهر في المشهد من يمثل عليه دور الراعي، والنظم الشمولية والدكتاتورية هي خير تربة ينمو فيها معا، القطيع وراعيه.

أحسب ان بذرة ثقافة القطيع تزرع منذ سنوات الطفولة الأولى، حين يكون الأب في الأسرة العراقية التقليدية هو الراعي يفرض طاعته على بقية أفراد الأسرة تحت لافتة الاحترام. لكن فارقا كبيرا يقف بين الطاعة والاحترام، فالطاعة تتطلب عينين مغمضتين وارادة مستسلمة، فيما يتطلب الاحترام عينين مفتوحتين وعقلا يقظا. في المدرسة يقوم المعلم او المعلمة بدور الراعي الذي يحول مجموعة من الأطفال الى قطيع يتلقى العلم عن طريق الحفظ والتلقين ويعاقب اذا ما حاجج او عبر عن فكرة مختلفة. وكذا الامر مع مدير المدرسة او استاذ الجامعة او المسؤول في قطاعات و في الدولة الذي يرتدي لبوس الراعي ليسوس الجميع بسوط الاذعان.

أذكر انني عملت يوما مع مدير خرق السياق المعتمد في العلاقة بينه وبين العاملين تحت ادارته. لقد وجد الرجل في تمثيل دور الراعي اهانة له ولخبرته الادارية، فوضع قواعد للعمل يسود فيها الاحترام، بدل الطاعة فاصطدم بمقاومة المجموعة العاملة التي اعتادت ثقافة القطيع التي تتيح لها فيما تييح انتاج رعاة صغار يستأثر كل منهم بقطيع يتبعه. يومها شهدت مواقف مؤلمة لأشخاص تتلجلج السنتهم امام المسؤول وما ان يصبحوا بعيدين عنه حتى ينفلت عقال انضباطهم، لأنهم اساءوا فهم قواعد العمل الجديدة. غادر الرجل منصبه منذ سنوات، لكنه خلف مشكلة لكل من جاء من بعده، وهي الاصطدام بمجموعة ذاقت طعم المبادرة والمشاركة والعمل بروح الفريق.

ولعل أكثر الجهات استثمارا لثقافة القطيع، هي القيادات السياسية التي تريد ان تحول نفسها الى رمز لا يمس، يتبعه قطيع مطيع تمام الطاعة. واذا كان الدكتاتور قد صنع لنفسه قطيعا يمشي وراءه تحت لافتات تداعب الحس القومي، وهي تلوح بعدو خارجي متربص، فان ساسة اليوم يتمثلون تلك التجربة، ليلعبوا دور الراعي الذي يحمي القطيع من شر قطعان اخرى تتربص به كي تطيح بالمذهب او المنطقة او العشيرة، فالاستقطاب الطائفي والمناطقي خير تربة تنبت رعاة وقطعانا تتقاتل فيما بينها بالخفاء والعلن.

تبقى أمام الجميع مشكلة لا حل لها، وهي ان القطيع قد يتمرد على راعيه في لحظة لا يقوى أحد على التنبؤ بها.

إقرأ أيضا