في الوقت الذي يتجه فيه الاقتصاد العراقي نحو مسار مقلق نتيجة الاعتماد شبه الكامل على الإيرادات النفطية في تمويل الموازنة العامة، تعاني وزارات الدولة العراقية من ترهل وظيفي يعرقل عمليات الإنتاج في الغالب، ويسبب إرهاقا لخزينتها، من دون تحقيق مردودات مالية تكفي على أقل تقدير لتأمين رواتب العاملين فيها.
وفي أرقام صادمة، كشف الخبير في الشأن الاقتصادي، منار العبيدي، اليوم الثلاثاء، عن ارتفاع رواتب الحكومة العراقية سنة 2024 بنسبة 27%، لتكسر لأول مرة حاجز الـ 60 تريليون دينار عراقي، وهو ما يمثل 40% من نفقات الحكومة العراقية.
وقال العبيدي في منشور على صفحته في “فيسبوك”، تابعته “العالم الجديد”، إن “الرواتب وصلت إلى مستويات خطيرة ستنعكس بشكل كارثي على الوضع الاقتصادي للعراق”، مبينا أنه “في سنة 2019 كانت قيمة الرواتب الحكومية 40 تريليون دينار، بينما بلغت في سنة 2024 نحو 60 تريليون دينار”.
وأشار إلى أن “قيمة الرواتب زادت خلال الخمس السنوات بنسبة 50%، دون أي إضافة تذكر للإيرادات غير النفطية أو تحسن في الخدمات المقدمة، متسائلا “فما فائدة زيادة قيمة فاتورة الرواتب؟”.
وتطالب الأوساط الاقتصادية منذ سنوات بإصلاحات جذرية، تتضمن إعادة هيكلة الوظائف الحكومية، والحد من الترهل الإداري، وتفعيل القطاع الخاص، إلا أن هذه المقترحات لا تزال تواجه مقاومة سياسية واجتماعية، وسط اعتماد ملايين العراقيين على الرواتب الحكومية كمصدر دخل رئيسي.
وتشكل الرواتب الحكومية في العراق، واحدة من أبرز تحديات السياسة المالية، إذ تعتمد الدولة بشكل شبه كلي على الإيرادات النفطية لتمويل نفقاتها، وفي مقدمتها بند الرواتب، ومنذ سنوات، تتصاعد التحذيرات من تضخم هذا البند دون تحقيق إصلاحات هيكلية أو تنويع في مصادر الدخل.
وتأتي هذه التصريحات بالتزامن مع حديث المختصين عن مستقبل سوداوي ينتظر اقتصاد العراق، بسبب ارتفاع النفقات وتذبذب أسعار النفط، ووصول المديونية إلى الخط الأحمر، مما ينذر باقتراب البلاد من الهاوية يوما بعد آخر.
وذكر تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في 20 أيار مايو الماضي، أن الاقتصاد العراقي يسير في مسار بالغ الخطورة، بفعل تضخم النفقات التشغيلية التي تجاوزت 60% من إجمالي الميزانية العامة، وغياب أي إصلاح هيكلي فعلي في سياسة الإيرادات، فيما لا تزال الحكومة تعتمد بنسبة تقارب 92% على عوائد النفط، رغم التراجع المتواصل في أسعاره وتقلّب السوق العالمي.
وأوصى صندوق النقد، بضرورة ضبط فاتورة الرواتب المتضخمة التي تستهلك وحدها أكثر من نصف الإيرادات السنوية، معتبرا أن سياسة التوظيف العشوائي، ونهج إرضاء الكتل السياسية بالدرجات الوظيفية، يدفعان بالمالية العراقية نحو حافة الانهيار.
يشار إلى أن إنتاجية الموظف في العراق لا تتجاوز الـ17 دقيقة يوميا، في ظل حاجة العراق إلى قانون لتنظيم العطل الرسمية التي تتسبب بهدر الوقت وتحول دون الإنتاج والتطور.
وأجلت الحكومات المتعاقبة خلال العقدين الماضيين، النظر إلى مشكلات التنمية البشريَّة في القطاع الخاص، ولجأت إلى حركة توظيف في القطاع العام، لتصبح الوظيفة الحكومية “حلم الشاب وغايته”، لتتراكم هذه المشكلات وتتضافر حتى باتت عبئاً ثقيلاً على الموازنات المتتابعة مهما كانت انفجارية استثمارياً.
ووفقا قانون الموازنات العامة الاتحادية للسنوات 2023، و2024، و2025، يبلغ عدد الموظفين في العراق أربعة ملايين و74 ألفا و697 موظفاً وموظفة، وحدد القانون نفسه عدد موظفي إقليم كردستان بـ658 ألفا و189 موظفاً وموظفة.
وكان الخبير الاقتصادي، أحمد عبد ربه، أكد في تقرير سابق لـ”للعالم الجديد”، أن “الترهل الوظيفي هو بطالة مقنعة تحدث أضرارا بمؤسسات الدولة، كما أن هناك صعوبة في تنقل الموظفين بين الوزارات بسبب سلم الرواتب الذي يختلف من وزارة إلى أخرى”.
ونوه عبد ربه، إلى أن “أعداد الموظفين الفائضة عن الحاجة في وزارتي الكهرباء والصناعة ومؤسسات الدولة غير المنتجة، تتطلب تشريع قانون لتوزيع الموظفين يتم بموجبه نقلهم بين الوزارات والمؤسسات التي تعاني من التخمة الوظيفية إلى أخرى فيها نقص ولها تماس مباشر مع المواطنين، مثل دوائر الجوازات والبطاقة الوطنية والضريبة وجميعها تواجه زخما كبيرا من المراجعين مقابل أعداد قليلة من الموظفين”، مؤكدا على “أهمية إعادة توزيع الملاكات الوظيفية ضمن خطة وقانون يتم من خلاله التساوي في الرواتب لتسهيل نقل الموظفين بحسب الحاجة الفعلية لهم”.
وتتجسد في بعض مؤسسات الدولة مشاهد درامية متكررة بسبب أعداد الموظفين الكثيرة، حيث أن بعض الموظفين لا يجدون مكانا يجلسون فيه، وآخرون يتناوبون على الجلوس، يضطر بعضهم إلى شراء المقاعد وجلبها للمؤسسة بعد تدوين أسمائهم عليها كي لا يشغلها سواهم.
ويعود إقبال المواطنين على الوظائف الحكومية، بحسب معنيين، لأسباب عديدة، منها تفشي البطالة وعدم وجود دعم حكومي للقطاع الخاص أو قانون ينظم عمله، إضافة إلى الراتب التقاعدي الذي تضمنه الحكومة للموظفين، والرواتب المجزية التي كان يتقاضاها الموظفون.
يشار إلى أن 9.5 ملايين عراقي يعتمدون في معيشتهم على الدولة بصورة مباشرة (موظفون ومتقاعدون وذوو الرعاية الاجتماعية)، وهو ما قد يشكل نسبة 23% من سكان العراق الذي تقدر وزارة التخطيط عدد سكانه بنحو 42 مليون نسمة.