صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الرواية العراقية بعد نيسان 2003

   ​​​بعد نيسان 2003، بدت التحولات العاصفة على مستوى الدولة في العراق ذات تأثير شامل على قطاعات واسعة، ومنها الأدب، والرواية بشكل خاص. إذ نشط هذا الفن في استثمار التغيير وملاحقة الموضوعات التي كانت تقبع سابقاً ضمن خانة المسكوت عنه طيلة أكثر من أربعة عقود.

   ​​​بعد نيسان 2003، بدت التحولات العاصفة على مستوى الدولة في العراق ذات تأثير شامل على قطاعات واسعة، ومنها الأدب، والرواية بشكل خاص. إذ نشط هذا الفن في استثمار التغيير وملاحقة الموضوعات التي كانت تقبع سابقاً ضمن خانة المسكوت عنه طيلة أكثر من أربعة عقود.

بدت مساحات الحرية كبيرة، واتسعت حدودها وفقاً لتقديرات الروائي، بعدما كانت تُرسم من الخارج، ما أعطى سقفاً عالياً للبوح والتخيّل، وقدرة أكبر على رسم شخصيات شديدة الصلة بالمناخ الجديد، وكانت الأحداث تنطلق من الآني وكذلك ما له علاقة بتواريخ الدولة العراقية الحديثة.. ولا شك، إن مناخاً كهذا دفع الرواية إلى الاقتراب أكثر من الانسان، وأصبح الهامش مادة مثمرة ورئيسة في الكثير من الكتابات.

ولو نظرنا إلى عدد الروايات الصادرة بعد نيسان 2003 وحتى العام 2014. أي بفترة زمنية قوامها تسعة أعوام، سنجدها كثيرة جداً قياساً إلى العدد الصادر طيلة عمر الرواية العراقية، فخلال تلك الفترة صدرت 470 رواية، بينما المجموع الكلي، وحسب كتاب “الفهرست الكامل للرواية العربية في العراق” للدكتور نجم عبد الله كاظم، الذي أرشف لهذا الفن خلال قرن كامل، من 1919– 2018، هو 2382 رواية، بدءاً من “الرواية الإيقاظية لسليمان فيضي 1919، ومروراً برواية “جلال خالد” لمحمود أحمد السيد 1928، وانتهاءً بروايات الأجيال الجديدة.

وإذا ألقينا الضوء على القيمة الإبداعية عبر نماذجها، وأقصد هنا ما بعد العام 2003، فسنلمس صعوداُ كبيراُ لا تخطئه عين الدارس والمهتم. روايات تجاوزت انتشارها المحلي إلى لغات العالم، وقدمت الموضوعة العراقية، الساخنة، بملامح تميزها عما سبق.

بدا الإنسان العراقي حاضراً بقوة، وأصبح تأريخه كله متاحاً للبحث والتنقيب، وأمست الواقعية فيها طريقاً واضحاً لمرور ما كان بعيداً التفكير فيه.. تذكر الناقدة العراقية د. نادية هناوي سعدون بهذا الصدد، وتضيف “ما عاد الروائي العراقي منشغلا بالآليات قدر انشغاله بالثيمات، لاسيما عند أولئك الكتاب الذين بزغ نجمهم في ظل التغيير وما بعده، ولعل هول المرحلة المعاشة بوصفها انعطافة خطيرة في تاريخ العراق المعاصر، وما رافقها من كم هائل من الموضوعات الطازجة والجديدة وغير المعتادة هو السبب وراء هذا اللهاث في احتواء أكبر قدر من تلك الموضوعات في مقابل تجاهل غير مقصود للأشكال والمباني”.

تنوعت الموضوعات وتقاطعت ضمن مناخ محتدم بالأسئلة، وإعادة صياغة لما تم تقديمه في عقود ماضية حول الانعطافات الكبيرة في سيرة تأريخ العراق الحديث. بدءاً من ولادة الدولة، ومروراُ بالانقلابات الفاشلة والناجحة، والحروب وتبعاتها. وانتهاءً بالفترة الآنية التي كانت فيها موضوعة الإرهاب والعنف الطائفي حاضرة، وغياب البوصلة في مجتمع يحاول أن يجد مخرجاً من المآزق التي تستبدل جلدها وفقاُ لنوع السلطة ولونها. لذلك، ظهرت مواقف من تلك الانعطافات الكبيرة، وبقدر ما كان الأمر ايجابياً في اثراء الرؤيا والجدل حول تأثيراتها من أجل الاقتراب من فهمها، فأن الأمر بدا سلبياُ من ناحية أخرى كما أراه في تشتيت القيمة المعرفية الطامحة إلى تفكيكها، ورسم الملامح العامة لها.

ويكشف النظر السريع إلى تأريخ الرواية في العراق بأنها رواية مشاريع فردية غير مكتملة باستثناءات قليلة قبل العام 2003، وسط ميل طاغ من قبل الكتّاب إلى الشعر والقصة القصيرة. وبما أننا نتحدث عن الفن السردي، فأن القصة القصيرة، الفن الأقرب للرواية، وأيضاً، لسبب أن بعض الكتّاب أنفسهم كتبوا في الجنسين معاً، ارتفع شأنها وتميزت بنماذج لم تستطع الرواية الاقتراب منها طيلة عقود. الأمر برأيي لم يكن له علاقة بشعبية هذا الجنس الأدبي عن الآخر، سواء أكان محلياً أم عالمياً، وانما بسبب ظروف بعضها يتعلق بسهولة وصعوبة النشر، والبعض الآخر بالتقلبات السياسية التي كان يشهدها العراق، ومساحات الحرية التي تفرض قيودها على الرواية أكثر من القصة القصيرة التي تتيح خصائصها الفنية في تمرير ما يريده الكاتب.

وعودة إلى الاستثناءات، تأتي أهمية غائب طعمة فرمان ليس فقط من روايته الأولى “النخلة والجيران” التي يعدها النقاد البداية الفنية الحقيقية للرواية في العراق، في العام 1966. بل أهمية غائب تحضر، كما أعتقد، بسبب المشروع الروائي لديه، وهنا يمثل الكم بجانب الموضوعات التي حضرت فيها الشخصيات الهامشية والمكان البغدادي والتفاصيل المتعلقة بهما، نقطة متوهجة في هذا الفن. وكذلك فيما بعد، جاء مشروع عبد الرحمن مجيد الربيعي وفؤاد التكرلي وعبد الخالق الركابي ومهدي عيسى الصقر، وآخرين الذين أعطوا الزخم المؤثر للرواية في العراق قبل 2003.

وهناك، في تأريخ الرواية العراقية مشاريع من نوع آخر، كانت فيها السلطة السياسية هي الموجّه في صناعة حالة من الهوس غير الحقيقي بالرواية، وظهر ذلك في عقد الثمانينيات خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، حيث تضاعف عدد الروايات بشكل ملفت، وظهرت مسابقات لهذا الفن، مجزية مادياً، ولكننا اليوم عند النظر ابداعياً لتلك الروايات، فأننا نجدها بعيدة عن التناسب الفني المتوقع مع حجم اصداراتها. تبدو القيمة الفنية ضحية لخطاب لا علاقة له بالأدب جاء من خارجها، وفرض بشكل لا شعوري أو شعوري على الروائيين الدخول في مناطق فقيرة ومكتشفة تضاريسها مسبقاً لدى القارئ. يكفي لنا القول، أن أغلب الروايات الفائزة بالمراكز الأولى في مسابقات تلك الحقبة، وطيلة سنوات الحرب، لم تستطع البقاء كنماذج في العقود التي تلت. ناهيك أن الدارس والمهتم اليوم لا يستطيع الوصول إلى جل حقيقة الاحاسيس التي كان يعاني منها الجندي مثلاً، باعتباره الشخصية الأبرز، أو تلمّس مشاعر الأم المنكوبة وهي تودع ابنها القتيل – الشهيد.

تكرر مثل هذا المشروع في النصف الثاني في عقد التسعينيات، ولكن هذه المرة كان العدو مختلفاً، والموضوعة عادت من جبهات القتال إلى الداخل الممزق بالعوز والحاجة الفعلية الى الطعام والدواء جراء الحصار الاقتصادي العالمي بسبب حرب الخليج الثانية، فعادت مجدداً زاوية النظر الضيقة للواقع لتمر عبر قنوات يدركها الروائي جيداً، ولا يحيد عنها، وبدا الصمود أمام المآسي الثيمة الأبرز، والشيطان بمعناه السياسي هو المسبب للكوارث. الشيطان كان الآخر.. لذلك، كان الكم هو اللافت فقط، عبر برنامجي نشر لكل واحد منهما مئة رواية. أي مئتا رواية صدرت في بحر سنوات قليلة.

ومن جانب آخر، ينبغي أن نشير إلى صدور روايات حاولت الخروج عن الطوق الصارم في مشاريع العقدين الثمانيني والتسعيني من القرن الماضي، وعبر استثمار حذر لكل ما تقدمه النظريات الأدبية الممكنة في تشتيت أو تكسير صورة الواقع إلى شظايا يصعب جمعها للوهلة الأولى. لكنها تبقى قليلة جداً، ويظهر فيها هاجس الابتعاد عن الضرر، أو مداواة جرح الذات المدفوعة إلى دروب لا تريد أن تسلكها.

لذلك، وبعد زوال كل تلك الحواجز بعد نيسان 2003 بدت الرواية العراقية وكأنها تريد وضع يدها على أكبر مساحة من الحرية، كما باتت متاحة للقراءة أعمال “رغم قلتها” كتبها روائيون كانوا خارج السلطة في المنافي، ما دعا إلى ظهور قضية في وقتها شغلت الواقع الأدبي العراقي بما يُسمى “أدب الداخل” و “أدب الخارج”، وتناول النقاد الخصائص الفنية والتباين بينهما، لكن ذلك سرعان ما زال بعد سنوات قليلة، وفورة الروايات الجديدة الصادرة من كلا الاتجاهين، الذين أتاح لهم التغيير حرية كانوا يسعون إليها. بينما الروائيون الأقدم احتاجوا وقتاً أطول قليلاً لاستيعاب مناخ المرحلة الجديدة، والعودة بكتابة لها ملامح يمكن تمييزها عن غيرهم. وترصد د. نادية هناوي سعدون ذلك بقولها “ذهب التصنيف القطاعي النوعي لفن الرواية في العراق في مرحلة التغيير ما بعد عام 2003 الى تمييز صنفين روائيين مختلفين على مستوى الخطاب والبناء، أولهما صنف روائي تابع لما قبل التغيير، مُقاطع لما بعد التغيير، قابع في الظل شاهدا ومراقبا متمسكا بمعاييره المعتادة والكلاسيكية. وثانيهما صنف روائي مساير للتغيير وما بعده حاملا معايير تنظيرية مستجدة انتظمت بموجبها المتغيرات الجديدة والوقائع المستحدثة”.

ألقيت هذه الورقة في ندوة الرواية العراقية- المهرجان الثقافي العربي في اسطنبول 23-24 تموز 2022، وتحدد حجمها بزمن القراءة المخصص لها.
 

إقرأ أيضا